بكثير من ضبط النفس، حاولت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على المستوى الرسمي، تلقّف حادثة إعدام عالم الدين السعودي الشيخ نمر باقر النمر. غضبٌ مبطن انعكس في ردة الفعل الشعبية، التي تعبّر عن حقيقة المشاعر الإيرانية الحانقة اتجاه الممارسات السعودية في المنطقة، وخصوصاً أن آثار حادثة الحجاج في منى لا تزال جاثمة على قلوب الإيرانيين، في ظل عدم كشف سطات الرياض عن أسباب هذه الحادثة التي ذهب ضحيّتها الآلاف من حجاج بيت الله الحرام، لتسكب عملية إعدام الشيخ النمر الزيت على نيران الحنق الشعبي، الذي تظاهر لثلاث سنوات دعماً لسجين الرأي السعودي.
اقتحام مبنى السفارة، رغم كافة الإجراءات الأمنية التي اتخذتها السطات الإيرانية، يشكل رسالة واضحة مفادها أن الأمور في إطار العلاقات مع الرياض قد تخرج عن السيطرة، وهو ما حاولت وزارة الخارجية الإيرانية أن تشير إليه في بيانها الداعي إلى حفظ أمن البعثات الدبلوماسية مع "التفهم لمشاعر الغضب الشعبية".
وبموازاة ذلك، فقد تناول السقف المرتفع للمرجعيات الدينية في الرد على عملية الإعدام، بشكل مباشر، "السلطات والحكام في السعودية" من دون الدخول في أي بعد طائفي أو مذهبي، فقد وصلت رسالة الرياض إلى طهران، مباشرة من دون مواربة أو تورية، لا مجال للحوار في أي موضوع كان، واضمحلت معها معظم المؤشرات الإيجابية على فتح كوّة في جدار الخلاف الإيراني ــ السعودي، الذي ارتفع، اليوم، إلى مستويات خطيرة.
المملكة العربية السعودية استفزت إيران بعملية الإعدام. هي لم تستخدم سياسة جس النبض، ذلك أن العجز في اليمن وسوريا دفعها إلى الدخول في قلب كرة اللهب، واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي، فكانت ردة الفعل الإيرانية العلنية مدروسة. ولأن الإعدام نُفذ سعودياً، وفقاً لرأي شرعي "وهّابي"، فإن الرد كان من المستوى نفسه، على لسان المراجع الدينية في الجمهورية الإسلامية، التي لم تجد مبرراً شرعياً ودينياً لقتل سجين رأي طالب العالم بالإفراج عنه.
اقتحام مبنى السفارة رسالة واضحة بأن الأمور في العلاقات مع الرياض قد تخرج عن السيطرة

إيران ستتعامل وفق قواعد جديدة مع تخطّي الخطوط الحمراء من قبل السعودية، التي تحدّت الجميع عبر سياسة "الأمر لي". تعتمد هذه القواعد على الرد غير المباشر والعلني، فالكثير من أوراق الضغط مازالت بحوزة طهران، التي لن تسمح بأن تحقّق السعودية أي إنجاز في ملفات المنطقة، كما أنها لن تسمح لها بخطف القرار الإقليمي. الحرب على الإرهاب المدعوم سعودياً، بحسب الرؤية الإيرانية، ستأخد منحى أكبر في سوريا، لأن الأولويات اليوم هي لضرب أذرع السعودية المتمثلة بالمجوعات المسلّحة المدعومة من الرياض، وحصر فائض القوة الذي تشعر به المملكة داخل أراضيها. ستنقل هزيمة المشروع السعودي في سوريا والعراق واليمن وعدم السماح له بتحقيق أي انتصار خارجي، الأزمة إلى الداخل المتأزم فعلياً، على وقع الخلافات الداخلية المتزايدة.
إيران تعي ذلك جيداً، وهي ستعمل وفق رؤيتها وسياساتها لمنع تحقيق الحلف المعادي لها أياً من أهدافه على الأرض، ما ينذر بمعركة ضارية صامتة سترفع مستوى التحدي، وقد يعلو خلالها الصراخ السعودي، في ظل الخصلة الإيرانية بالتحرك خلف الكواليس، بصبر وهدوء، مع الالتزام بعامل عدم حرق المراحل والاستخدام البطيء للوقت في معركة رفعت فيها الرياض سقف التحدي إلى مستويات غير مسبوقة.
ستسمح هذه المعركة لطهران بالتخلي عن بعض القيود، التي فرضتها على نفسها في التعامل مع الرياض، على أساس إمكانية استمالتها والدخول معها في حوار ينتج صيغة لا غالب ولا مغلوب. اليوم، حررت حادثة إعدام الشيخ النمر الحركة الإيرانية، عبر تلقف الدعوة السعودية للمواجهة المباشرة، التي تتقن طهران أساليبها الخفية، وتتفنن في ممارستها على امتداد مساحة الإقليم، ولكن هذا يعني أن طهران لن تكشف أوراقها في أروقة السياسة، ومن على المنابر الإعلامية، بل ستعمل بصمت، لمعالجة حفل الجنون السعودي واحتوائه والتعاطي معه لترويضه وتحجيمه، وبالتالي عدم تقديم أي حجة أو دليل، في صراع تريد الرياض إلباسه لبوس الدين والمذهبية، ونقل الخلاف السياسي إلى ديني مذهبي لتغطية فشلها العسكري، بتحويله إلى أتون الحرب الطائفية التي تجيد المملكة السعودية أساليبه، عبر المال وشد العصب المذهبي، ونشر الفكر التكفيري. أمر تفهمه طهران جيداً، وتحاول عدم الانجرار إليه، لمعرفتها بأن نيرانه ستحرق كافة المكتسبات، التي حققتها سياسياً وعسكرياً، على صعيد المنطقة، وأيضاً لإداركها بأنها لن تكسب الرهان على حروب كهذه، لا تجرّ إلا الويلات لمشعليها.