تحاول بعض الكتابات في أنحاء شتى، ولا سيما في الصحافة العبرية، تبرير الإجرام الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزّة، وبحجج مختلفة. تذرُّ الرماد في العيون علّها تُقنع نفسها أوّلاً بأنّ الخراف هي التي أكلت الذئبتتعامل الصحف الإسرائيلية مع الحملة العسكرية على قطاع غزّة بتعبئة شاملة لمصلحة قياداتها السياسية والعسكرية من أجل توفير صمود الجبهة الداخلية ريثما تحقق الحملة أهدافها. لكن مع بدء «المرحلة الثانية» والاجتياح البرّي، بدأت تعلو أصوات تدعو إلى المفاوضات والعودة إلى التهدئة خشية من نهاية تُشبه نهاية حرب تموز 2006. أما في الإعلام الأميركي، فخرجت أصوات تُعلن «خجلها لأنها أيدت يوماً إسرائيل» مسجلة تعاطفها مع الغزاويين، ما أثار امتعاض البعض أمثال برنارد هنري ليفي في «ذا نيو ريبابليكان» أمس.
فالإعلام الإسرائيلي يتبنى موقف المؤسستين العسكرية والسياسية، ويرى أنَّ الحملة العسكرية هي «حرب للحفاظ على البيت»، كما جاء في عنوان لمقالةٍ كتبها إيتان هابر على الصفحة الأولى في «يديعوت أحرونوت»، وفي أخرى كتبها بن كسبيت على صفحة «معاريف» الأولى، تحت عنوان «نعود إلى هناك من أجل البقاء على قيد الحياة».
كان التأييد الإعلامي للعملية الجوية جارفاً، حتى إنَّ أدباء إسرائيليين، أبرزهم عاموس عوز، يحسبون على المعسكر «اليساري»، لم يُبدوا أي تحفظ منذ بداية الحرب، وشدّدوا على لزوم العملية الجوية. ولم يُدينوا المجازر بحق الأطفال، ولا الحصار.
بعد أيام من بدء المرحلة الثانية من «الرصاص المصهور»، تعالت أصوات تدعو إلى التهدئة. وتساءل بعض معلقي الصحف عن «النهاية»، متخوّفين من نهاية تُشبه «حرب تموز 2006». فقد أيدَّت صحيفة «هآرتس» وجوب الانتقال إلى طاولة المفاوضات، خشية تورّط الجيش الإسرائيلي بعملية برّية قد توصله إلى «نقطة اللاعودة». وما يستدعي السخرية حقاً، ما كتبه برنارد هنري ليفي أمس في «ذا نيو ريبابليكان»، حيث انتقد من يلوم العملية العسكرية ويتعاطف مع صور ضحايا الاعتداءات، وذكّر بمجموعة من «الحقائق»: لا حكومة في العالم تستطيع أن تتحمل سقوط آلاف القذائف على مدنها. ويقول إن المفاجأة الكبرى ليس «الوحشية الإسرائيلية»، بل «الانضباط الإسرائيلي».
«حقيقة» أنّ «صواريخ القسام لم تسبب خسائر تُذكر في الأرواح لا تعني أنها غير مؤذية، بل لأن الإسرائيليين يحمون أنفسهم جيداً، يعيشون في الملاجئ داخل منازلهم، مع دوي صفارات الإنذار والانفجارات».
«حقيقة» أن «الصواريخ الإسرائيلية تُسقط الكثير من القتلى، لا تعني أنّ إسرائيل كما يدّعي المتظاهرون في أرجاء العالم ترتكب مجزرة، بل إنّ زعماء غزّة اختاروا الاتجاه المعاكس وعرّضوا شعبهم للخطر مستندين إلى التكتيك القديم: الدروع البشرية. وتعني أن حماس كما حزب الله، وضعت قيادتها المركزية وترسانة أسلحتها ومستودعاتها داخل المباني والمشافي والمدارس».
«حقيقة» أن «الفلسطينيين يفتحون النار على المدن والمدنيين» (ما سمّاه ليفي جريمة حرب)، أما «الإسرائيليون فيضربون الأهداف العسكرية، ويسببون عن غير قصد رعب مدني» (سمّاه «أضراراً جانبية» بلغة الحرب).
«حقيقة» نادراً ما نقلتها الصحافة الفرنسية على حدّ زعمه، «ولم يحصل في أي حرب أو في التاريخ العسكري أن الجيش الإسرائيلي طلب من سكان غزة الذين يعيشون بالقرب من الأهداف أن يُخلوا مناطقهم».
«حقيقة» أن «فلسطينيي غزة يعانون أزمة إنسانية غير مسبوقة، باطلة، لأن المساعدات الإنسانية بدأت بالدخول إلى القطاع منذ 31 كانون الأول. والمستشفيات الإسرائيلية تستقبل على الدوام جرحى فلسطينيين».
ويخلص ليفي إلى دعوة المعلّقين المتعاطفين مع الفلسطينيين إلى أن يكونوا أكثر حكمة، وأن «يكتشفوا أن الأعداء الفلسطينيين الأسوأ هم القادة المتطرفون، الذين لم يريدوا السلام يوماً».
تلك «الحقائق الست» التي عرضها ليفي، أوهام مستندة إلى أساليب ملتوية لا داعي لدحضها، فالوقائع وهمجية الآلة الحربية الإسرائيلية والتاريخ الصهيوني كفيلة بذلك.
وفي خضم الإجماع الجارف على تأييد العدوان، لا بدَّ من الإشارة إلى مقال واحد لا غير من الصحف العبرية، يُدين الاعتداء الإسرائيلي من دون تحفظات، كتبه جدعون ليفي في «هآرتس»، انتقد خلاله انعدام «الأسئلة الأخلاقية» أكثر من أي وقت مضى. وتجدر الإشارة إلى أنَّ رأي جدعون ليفي لم يتكوّن جرّاء العملية المخزية في غزة، لأن مواقفه الناقدة لإسرائيل كانت منذ زمن، وبقيت كذلك حتى بعد العملية. وجود كتاب مثله نادر جداً في الإعلام العبري. فهو صاحب زاوية «منطقة النزف» التي تنشرها «هآرتس» أسبوعياً، يتناول فيها كل مرة قصة من داخل المأساة الفلسطينية.
(الأخبار)