إضافة إلى انفلات الرقابة على الأسواق الماليّة وتردّي نوعيّة الائتمان في الولايات المتّحدة، كان هناك عامل أساسيّ وراء انفجار الأزمة العالميّة على الصعيد المالي أوّلاً. هذا العامل ناتج مباشرة من هيكليّة العولمة، وسببه الاختلال في مستويات الادخار والإنفاق بين البلدان النامية وتلك الصناعيّة، فـ«أميركا عاشت فوق طاقة اقتصادها» والجميع دفع ثمن ذلك
باريس ــ بسّام الطيارة
يحتار المراقبون في تفسير اللهجة الجديدة التي يتناول بها صندوق النقد الدولي بتقاريره اقتصاد الولايات المتحدة. البعض يقول إن الأزمة الاقتصادية حادّة لدرجة لا تسمح بـ«أخذ قفازات» للتعاطي مع أكبر اقتصاد عالمي، وخصوصاً أنّ سياسة الرئيس الجديد المعلنة هي تحت شعار «نعم نستطيع». وفي المقابل يرى آخرون في هذا «تأثيراً مباشراً» لوصول الاشتراكي دومينيك شتراوس ـــــ خان إلى رئاسة الصندوق.
فالأخير تسلّم رأس حربة مواجهة الأزمة الاقتصاديّة على الصعيد العالمي. وقد كسب صندوقه مضاعفة موارده إلى 500 مليار دولار في قمة مجموعة الدول العشرين الكبرى (G20) في بداية الشهر الجاري، مع رفع حقوق السحب الخاصّة بواقع 250 مليار دولار. لكن جهود الصندوق تصطدم بحدّة الركود العالمي. فالاقتصاد الكوني يتوقّع تقلّصه بنسبة 1.2 في المئة خلال العام الجاري، ولن تزيد نسبة نموّه على 1.9 في المئة في العام المقبل. لكن حتّى حينها سيبقى الاقتصاد الأميركي منكمشاً بنسبة نموّ تبلغ صفر في المئة، وفقاً للتقرير «آفاق الاقتصاد العالمي» الذي أصدره الصندوق منذ ثلاثة أيّام.
على أيّ حال، إنّ وجهتي النظر المذكورتين لا تنفيان أنّ الصندوق الذي يتخذ من واشنطن مقراً له، والذي يعدّه المراقبون «الرابح الأكبر» من قمة الـ«G20»، بدأ يضع إصبع انتقاداته على جروح كثيرة في نظام النقد الدولي تعود إلى «هيكلية الاقتصاد الأميركي وسياساته النقدية»، وكان آخرها ما تسرب من تحليلات واستنتاجات خرجت من طيّات فقرة في التقرير نصف السنوي الذي أصدره الصندوق.
قبل انطلاق الأزمة كان من نافل القول أنّ المديونية الضخمة للولايات المتحدة، التي تتجاوز الآن 10 تريليونات دولار، هي أحد العوامل التي تؤهّب لكارثة مالية، إلا أنه يتبين اليوم بحسب البنك الدولي أن هذه المديونية مُوِّلَت مباشرة خلال فترة النمو القياسية من جراء «استجرار ثروات اقتصادات دول أقل ثراءً» وأنها من «العوامل الرئيسية» لهذه الأزمة الحالية.
وبالطبع لا يتفق الخبراء على نسبة تأثير هذا العامل «الذي لا شكّ من وجوده» لتفجير الأزمة، إلا أن معظمهم يتّفق على أنه عامل مؤثر مباشرة، وقد وافقهم الرأي البنك الدولي بإصداره بيان يقول فيه «إن الدول النامية قد مولت استهلاك الدول الغنية».
ويفسر الخبراء هذا بأنّ النمو السريع لعدد من الاقتصادات الناشئة ترافق مع نموّ متسارع لمداخيل عمليات التصدير، وبالتالي أسهم بتكديس فائض احتياط نقدي «قلب معايير الثروة من الشمال إلى الجنوب». إلا أن نسبة التوفير (الاحتياطات النقدية لدى الدول النامية) فاقت كثيراً قدرة هذه الدول على الاستثمار في اقتصاداتها المحليّة، ما دفعها بطبيعة الحال نحو «تمويل العجز» في عدد من الدول الغنية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، حيث ساهم هذا «الدفق النقدي» إلى حركة توسّع استثماري مبني على الاقتراض رافقه ارتفاع حاد لنشاط الاقتراض في مجال العقارات.
النتيجة الأولى، بحسب تقرير البنك الدولي، كانت انخفاض معدلات الفائدة، ما أسهم بدفع عجلة الاقتصاد الافتراضي، وواكب ذلك ارتفاع مؤشرات البورصات العالمية، إلا أنه بالمقابل فإن أسعار «الأصول الجامدة» المرتبطة بالاقتصاد الحقيقي (عقارات مثلاً) كانت ترتفع بتسارع بسبب سهولة الاقتراض. وقد انتقل هذا التضخم إلى خارج الولايات المتحدة بسبب ارتفاع أسواق الأسهم العالمية. ويشير الخبراء في هذا المجال إلى أنّ أسواق البورصة عاشت على «أموال كانت تأتي من الدول النامية» بكثافة عبر الولايات المتحدة.
ورغم أن هذه «اللعبة الخطرة» قامت بسبب وجود فائض نقدي ضخم جداً موّلته بصورة أساسية الصين (٢٦ في المئة) تليها ألمانيا ثم اليابان والمملكة العربية السعودية ثم روسيا، إلا أن الولايات المتحدة (٥٧٪) (ومعها بعض الدول، لكن بنسب أقل مثل إسبانيا وبريطانيا وأوستراليا وإيطاليا) أسهمت بتأجيج دوامة التضخم عبر عدم معالجتها للعجز الدائم لميزانياتها.
وبالطبع لا يوافق الخبراء الأميركيون على هذا التحليل ولا على درجة تأثير عامل الاقتراض الأميركي على الأزمة.
وفي المقابل، ترى غالبيّة الخبراء الأوروبيّين، وخصوصاً الفرنسيين بينهم، أنّ «أميركا تعيش فوق طاقة اقتصادها» وأن على المؤسسات المالية الدولية «وضع قيود على إمكان تدوير فائض النقد الدولي في اقتصادات غنية» والتشديد على ضرورة «إعادة ضخها في اقتصاديات الدول الفقيرة» والسعي لـ«ردم الهوة بين الشمال والجنوب»، وهو ما تطالب به عدد من المراجع في المفوضيّة الأوروبية.


مواجهة خضراء

الأزمة الماليّة العالميّة توفر فرصة لزيادة الهواجس البيئيّة في عمليّة إعادة بناء الاقتصاد العالمي، هذا ما شدّدت عليه وزيرة البيئة الإيطاليّة، ستيفانيا بريستيجياكومو، في ختام اجتماع جمعها ونظراءها في مجموعة الدول الصناعيّة الكبرة «G8» في إيطاليا على مدى ثلاثة أيّام. فرغم حدّته، يمثّل الركود العالمي منطلقاً لكي تكون «خطط مواجهة الأزمة التي تصوغها المجموعة بلون أخضر»، بحسب الوزيرة التي لفتت إلى أنّ الجهود مركّزة لتكريس القدرات في سبيل مواجهة الأزمة في اجتماع زعماء المجموعة في تمّوز المقبل.