غزّة | لا تبدو العين على القدس من الخارج كما من الداخل. كثيرون اتجهوا نحو «أيقنة» القدس دينياً فقط، من دون أن يمنحوها البعد الإنساني. غير أنّ مسلسل «باب العمود» (24/1/2014) المقدسيّ بجزئه الثاني بدّد أخيراً هذه النظرات الاختزالية. توغّل هذا العمل الدرامي في قاع المدينة المحتلة. نأى بنفسه عن مقاربة معركة القدس الوجودية مع الاحتلال على نحو كلاسيكي ومباشر. في رمضان المقبل، سيعود هذا المسلسل الذي أنتجه «مسرح الرواة» المقدسيّ إلى الشاشة، بعدما غاب عن المشاهد لعامين متواصلين.
مع «باب العمود»، تصير سخرية المقدسيين ندّاً لتعسّف الاحتلال ضدهم. كما تستحيل حياتهم الاجتماعيّة المعقّدة مكشوفةً إلى أبعد حدّ، من دون الحاجة إلى تجميل الواقع. في هذا العمل، لا وجود لصور مبتورة. كاميرا المسلسل لا تعرف التقاط مشاهد كليشيهية بشخصيّاتها وحواراتها. نجح المخرج إسماعيل الدباغ في كسر القوالب التي حُنِّط داخلها الإنسان المقدسي على الشاشات التي لطالما صوّرته على أنّه إنسان صلب يُحرّم عليه التعب أو الشكوى. يبدو الدبّاغ وكأنّه يمسك بعدسة تكبير يصوّبها نحو تفاصيل وزوايا غائبة عن المشاهد، من دون حرفها عن كابوس الاحتلال الذي يشكّل جزءاً كبيراً منها.
من خلال مصلّح الغسالات حسن بظاظو وزوجته حسنيّة، يقترب المسلسل (سيناريو وحوار إسماعيل الدباغ وطارق السيّد) من قضايا المقدسيين وحياتهم اليومية. الشخصيتان الرئيسيتان يؤديهما الدباغ والكاتبة مايا أبو الحيات. وهما بمثابة وجه القدس الشفّاف الذي يعكس تناقضاتها. ضمن قالب السخرية المرّة، يفتح المسلسل أبواب المقدسيين الموصدة، ويُخرِج إلى السطح همومهم وأحلامهم بحسّ إنساني عالٍ. بذلك، نجد أنفسنا أمام موضوعات حيّة، كالتهجير والتهويد والضرائب الجائرة التي يفرضها الاحتلال على أهل القدس. كما يحاكي العمل الواقع التعليمي في القدس المفصّل على مقاس العدو، وما ينطوي عليه من تهميش للجيل الجديد.
يتحالف «باب العمود» مع البسطاء الذين يشكّلون السواد الأعظم من السكان، بعيداً عن الطبقات المخمليّة والإقطاعيين، إذ يؤمن الدبّاغ بأنّه «لا يمكن أن يكون ثمّة حضور لنظام إقطاعي تحت وطأة الاحتلال». تأسيساً على ذلك، لا تعيش أحداث المسلسل في الأبراج العاجية، بل بين أزقّة القدس وحاراتها وأسواقها الشعبية العتيقة التي لم يعتد المشاهد أن يراها، إذ نلحظ أنّ الكاميرا طيلة عرض الحلقة (26 د.) ترصد الهندسة المعمارية للقدس وتجول على تراثها الذي يواجه تحدّيات البقاء وسط مخططات التهويد والأسرلة. «القدس تاريخياً جميلة، غير أنّ سياسات الاحتلال ضد المدينة وناسها جعلتنا غير قادرين على التوقّف عند جمالها وعراقتها، لذلك حان الوقت لنبرز هذا الجمال للمشاهد». يجيب الدباغ على سؤالنا له حول الدافع وراء تركيز المسلسل على مشاهد العمارة المقدسية.

سيُعرض على قناة «معاً»
بعد صلاة التراويح


ويستمد «باب العمود» جماهيريّته من لهجة أبطاله المقدسيّة الأصيلة وابتعاده عن اللغة الخشبية، إضافةً إلى خفّة ظل شخصياته، وتحديداً حسن وزوجته حسنيّة اللذين يحاولان الدفع بحالتهم الاجتماعية والاقتصادية إلى الأمام. «يحرق حريشك» و«الخنّاق يخنقك»، ربّما كانتا من أكثر العبارات الفلسطينية الطريفة تردّداً في حلقات العمل. ببساطة، يصف الدبّاغ المسلسل بأنّه «سهل ممتنع بعيد عن الكليشيهات الوطنية، حيث يُعتبر بمثابة نافذة نرى من خلالها الحياة المقدسية تحت الاحتلال من منظور مغاير تماماً للمسلسلات والشاشات العربية التي تتعامل مع القدس بمنطق عاطفي بحت».
ويرى الدبّاغ أنّه «لا طائل من نقل المسلسل لحوادث الاعتقال والهدم والتدمير في القدس على نحو صريح وسطحي كما يفعل العرب، كون الاحتلال يجيد ذلك واقعاً أكثر منه تمثيلاً». لكنْ ألا تخشَ أن يكون الجزء الثاني نسخة مكرورة تبعث السأم في نفس المشاهد؟ يجيب: «لو قمنا بتنفيذ عشرات الأجزاء عن القدس، لن نفيها حقّها. هناك جديد كلّ يوم، كما أنّنا زدنا جرعة الجرأة في الطرح في هذا الموسم». ويتابع: «سنتعرّض مثلاً لسوق اللّحامين الذي صار سوقاً للأشباح بسبب الإهمال، وسنعالج كذلك البنية الاجتماعية شبه المنهارة هناك، والفصل بين القدس ومحيطها الجغرافي، كما سنتطرّق إلى الواقع الديموغرافي للمدينة، إلى درجة أنّنا بتنا نشعر أنّنا نقطن في حارة ضيّقة».
رغم هذا الواقع المعقّد، يغلّب على «باب العمود 2» الأمل والضحكات، وكأنّ بها يواجه المقدسيون أعتى قوّة احتلال على الأرض، ويصبون إلى عودة نسيجهم الاجتماعي كما كان. اللافت أيضاً أنّ شخصيات العمل من بيئة المدينة نفسها، مما سهّل مقاربة واقع فساد المؤسسات بخصوص ترميم المنازل والمنشآت المقدسية، ومقاربة شخصيات «أبطال من نايلون» الذين صنعهم فايسبوك، كأنّهم الأسياد على القدس، بحسب توصيف الدبّاغ. ومن بين الممثلين نذكر عدنان أبو سنينة (دور خليل كمون)، وعامر خليل (اللحام أبو كايد)، ومحمود أبو الشيخ (أبو جابر الفران)، وستنضمّ شخصية «أبو خريستو» من حارة النصارى إلى فريق العمل.
«نحن أولاد المدينة، نعرف بدقّة مداخل القدس ومخارجها وأسرارها. نتجاهل الاحتلال ونتحايل عليه في تصوير مشاهد العمل». هكذا، ردّ الدباغ على سؤالنا له عن إمكانية التصوير وسط القيود الإسرائيلية. أمّا عن التحديات المالية، فقد تمكّن «مسرح الرواة» من التغلّب عليها بفضل بعض المقدسيين الذين فتحوا بيوتهم للفريق من دون مقابل مادي. ويتوقع عرض المسلسل على شاشة «معاً» الفسلطينية بعد صلاه التراويح. قبل عامين، كان الأسرى القابعون خلف القضبان الصهيونية ينتظرون على أحرّ من الجمر هذا المسلسل الذي يشبههم، فهل سيكون سلوانهم أيضاً هذه المرة؟