وبما أنّ التجريد هو أكثر الحقول احتمالاً للتأويلات، فهو يلبس هنا رداءً أبعد من الإطار «الوطني» الذي أرادت صحناوي الإشارة إليه. إذا لا بد للرائي من أن يتذكّر أعمال المعلمة الكبيرة هوغيت كالان، وتحديداً تلك الروحية التي تعود ـ للوهلة الأولى ــ إلى الذاكرة البصرية عند رؤية الأعمال من بعيد. لكن طبعاً عندما نقترب من أعمال صحناوي، فإنّها تأخذنا باتجاه مختلف تماماً. الإحالات البصرية لأعمال شبه تجريدية أو تجريدية في هذا المضمار كبيرة وكثيرة على المستوى العالمي. لكن دون شك، هذا التجريد اللطيف، يذكّرنا أيضاً للوهلة الأولى بأعمال دينا ديوان التي تُعرض مرحلياً في «غاليري جانين ربيز»، وهي مجايلة لصحناوي، مع فارق في التقنيات أيضاً. لكن المنحى البصري متشابه للرائين، بخاصة في ما يتعلّق بهذه الروحية في رصف الخطوط الرفيعة المتباينة والمتشابهة في آن، بعضها قرب بعض.
هي إذاً لوحات ضخمة، تجاورها سلسلة سابقة من الأعمال الأصغر حجماً. إذ تختار صحناوي صفحات الجرائد، فتغطي أجزاء منها عمداً وتظهر بعضها الآخر. تلغي كلماتٍ هنا وتشدد على حضور غيرها، بتأليف بصري ديناميكي. يذكّر في ما يذكّر بأعمال كبار الفنانين الذين اتّخذوا من أوراق الجرائد مساحة تعبيرهم. لكننا نسأل: ألم تقع نسبياً صحناوي في متاهة البوستر أم أنّ ذلك كان مقصوداً؟ هذه اللعبة الديناميكية في التأليف التي تستخدم فيها صحناوي اللون كفعل إلغاء أو تأكيد حضور، يحيلنا بطبيعة الحال إلى دراستها السينمائية التي تجيد الفنانة عبرها تركيب نطاقها البصري ليفيد معلومات، كما ليفيد قولاً سينمائياً واضحاً... هل يجوز معه القول «دعائياً»؟
لعبة ديناميكية في التأليف تستخدم فيها اللون كفعل إلغاء أو تأكيد حضور
الإجابة حتماً عند صحناوي. فالمعرض يمكننا أن نقسمه إلى ثلاثة أقسام منوعة: اللوحات التجريدية كبيرة الحجم (فوق المترين)، واللوحات التي اتّخذت صفحات الجرائد كنافذة للتعبير شبه السينمائي، والتجهيز الذي ما تركته صحناوي يوماً، رغم عودتها إلى المساحة المسطحة اليوم بقوّة، وهذا الجزء الثالث في المعرض إنما هو الأقرب للبيان الفنيّ بالمعنى المباشر. إذ نجد تجهيزاً بالأبيض يغطّي الجدار الكبير، حيث طَلت صحناوي قطعاً حديدية مجموعةً هي اشبمانات سيارات وخزانات وقود وغيرهما من قطع السيارات التي تحيلنا غالباً إلى التلّوث البيئي، وعلّقتها بشكل أفقي على مدى عرض الحائط الكبير في «تانيت». فندى صحناوي التي تعرّف عن نفسها بأنها ناشطة سياسية بشكل أساسي، هي بالتالي معنيّة قبل أي شيء بما يجري على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان... فهل التلوّث البيئي، المحارق، أزمة النفايات وغيرها مثلاً تشكل حروباً خانقة جديدة تريد أن تشير إليها صحناوي؟ والطلاء الأبيض؟ هل يمكن أن يكون الحل أو البديل رمزياً؟
المؤكد أن ندى صحناوي التي عادت بعد سبع سنوات لتخوض غمار العرض التشكيلي المسطح والتجريدي، إنما كانت تخوضه بدافع التساؤل عن جدوى الحروب وما بعد الحروب. كل أنواع الحروب، وليس فقط الحروب الصغيرة أو تلك الاجتماعية- السياسية، أو الاقتصادية التي تشلّ لبنان. بل من المؤكد أن الحرب على الأرض السورية أيضاً كانت وما زالت مبعث تفتيح جروح لجيل كامل من اللبنانيين الذي عايشوا حربهم الأهلية، ولم يتعايشوا بعد مع مرحلة ما بعدها. بعضهم أراد النسيان، فلاحقته الذكرى وبعضهم أراد الانغماس في الذكرى، فنسي أصل العلّة، وبينهما جيل وسيط لا يمكن أن يمسك ريشة أو قلماً من دون أن ترافقه أحرف ثلاثة: ح.ر.ب. وهنا نسأل مع ندى صحناوي بالإنكليزية التي اختارتها للتعبير، ربما كي يفهمها الآخرون: How Many How Many More؟
* How Many How Many More: حتى يوم غد ــــ «غاليري تانيت» (مار مخايل ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/562812