هل تخلّص علي شحرور من الموت والرثاء مع انتهاء ثلاثيّة السواد؟ إن كان ملخّص عرضه الجديد «ليل» يشير إلى الحب كثيمة، فذلك لا يعني بالضرورة أنّه حب معقّم من الفقد. هناك ما ينتظر الأجساد، مهما دارت وانتشت فإنها محكومة بالمصير نفسه. قوّة خفيّة تجرّ حركتها، لتتقمّصها حركة المسرح بأكمله، براقصيه (حلا عمران، آية متولّي، وعلي شحرور) وموسيقييه/ مؤدّيه (سيمونا عبد الله/ إيقاعات، وشريف صحناوي ومتولّي/ غيتار) ومغنّيتيه (عمران ومتولّي)، وصولاً إلى الإضاءة (غيوم تيسون). في عرضه الجديد الذي يفتتح مساء اليوم في «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت) يستهلّ الكوريغراف اللبناني ثلاثيّة جديدة حول الحب. يبدو «ليل» تطويراً لأحدّ شقّي عرضه الأوّل «فاطمة» (2014) الذي دشّن به ثلاثيّة الموت. كأن «فاطمة»، بما اختبره من سبل مشرقيّة في العلاقة مع الجسد حبّاً وحزناً، قدّم مفاتيح أساسيّة لعرضيه اللاحقين «موت ليلى» (2016) و«عساه يحيا ويشمّ العبق» (2017) وعمله الحالي. في ثلاثيّته، اشتقّ شحرور حركته المعاصرة من ذاكرة الأجسام المحليّة، تلمّس جذورها في أساطير المنطقة. اتخذ من التراث العربي مرجعاً، مفكّكاً طبقاته وسياقاته وتلقّف تجلياته الحاضرة ضمن همّ سياسي ثقافيّ واجتماعي. من الموت، ينتقل شحرور إلى الحب. كأنه يتنقّل بين طرفي الصراع الأزلي بين تاناتوس وإيروس. كلاهما حاضران، إذ يحتفظ شحرور بخياراته الجماليّة والسياسيّة، لكنه يوظّف بحثه في أماكن أكثر حميميّة هنا.
عمله الحالي الذي يدعو فنانين من خلفيات متنوعة، لا يتنازل عن الرقّة تفادياً لتهمة أن المبالغة بها قد تقع على حافّة الابتذال. تأتي المجاهرة بالحب الكلاسيكي، والرومانسيات كعزاء لآلاف الأجساد التي استشهدت بسبب الحب منذ الخطيئة الأولى وصولاً إلى اليوم. على الخشبة حفلة مقرّرة تعلن بدايتها حلا عمران. الممثلة السورية التي تألقت في عرض «عساه يحيا»، تقود العرض كراو وشاهد وضحيّة. بلغة عربيّة أصيلة تعرّفنا على المؤدين والموسيقيين الذين يجلسون بجانبها. تنتقل إلى استكشاف الحبّ لغويّاً بلحن أسماء الله الحسنى «الجوى، العلق، المحبة، الصبابة، المِقَة، التتيم...». أكان عبر استخدامها لأساليب غنائية وصوتيّة، أم من خلال لجوئها إلى اللغة، تتبدّى السلطة الدينية في مقاطع كتبتها مع جنيد سري الدين (دراماتورجيا).
حلا عمران وآية متولّي في مشهد من العرض (ألان مونو)

اللغة العربيّة هي عنصر أساسي في العرض، بخصوبتها التي تقول أصغر المشاعر وأكثرها تدفّقاً. إنها تلك الهالة المتوارية التي تملي على الأجساد انهيارها وشطحاتها القصوى. يتطرّق العرض إلى سطوة النصّ، أيّ نصّ، ووقعه على الجسد: القتل، التضحية بالرغبات... مظهّراً علاقة إشكاليّة شغلت عدداً من الباحثين والمنظرين، خصوصاً في الثقافة العربيّة مثل المغربي عبد الكبير خطيبي. حين تهبط باقة ورود من الأعلى، فإنها تعلن شكل المسرح حتى النهاية. يكتسب السقوط هنا معاني كثيرة تبرّر انكسارات الحركة وهشاشة الأجساد طوال العرض. تقول عمران قصص العاشقين وهي تردّد قصائد الحبّ الأولى التي مرّت على المنطقة بالسومريّة والسريانية والعربية والعبريّة. تفرج عن أصوات مختلفة في غنائها لـ «ردت بس شوفتك»، «من غاب دلالي»، وبعض المواويل اليمنية منها «عيني لغير جمالكم لا تنظر». بالطريقة نفسها، تلقي بثقل الصليب على كتفي الراقصين علي شحرور وآية متولّي. كأنّما الحركة الأولى التي تولد من الصليب، تكابد طوال الوقت المتبقي للإفلات من ثقله. يصيب سهم كيوبيد جسدي العاشقين، ليتصيد وهنَهما لا قلبيهما. بهذه الحالة يقبض علينا العرض، وبها نقبض على الراقصين. الحبّ عندهم لا ينضج إلا بالتورّط الكامل الذي يصل إلى التهاوي. «إن نظرة على نظرة عشيق ينظر إلى معشوقه تكفي لإثبات أن هذه النظرة فارغة، إنها كما يقال بحقٍ مستسلمة. كل ما كانت توحي به سابقاً من فطنة وذكاء وفضول وحذر اختفى. وبقيت نظرة المتصوّف، الذي يعتقد أنه يرى الرب... ثمن الحب يدفع دائماً بخسران العقل، بالتضحية بالذات وما ينتج عنها من قصور الأهليّة العقليّة». تتضمّن هذه العبارة لباتريك زوسكند من كتابه «عن الحب والموت» الطبقات المتعدّدة للعرض، التي يستمدّها من الرومانسيات الغنيّة للتراث العربي والإسلامي، وتراجيديا العشاق في كتاب «مصارع العشاق» للسراج القارئ، والشعر العربي المغنّى والمكتوب، وتراث بلاد ما بين النهرين، وسيرة الخلق.
هكذا يرجعنا إلى أصل الحكاية. يمرّ بنا العرض على حالات وتعبيرات متنوّعة من الحبّ. نرى الرحلة مضنية يمرّ بها العاشق بكافّة تحوّلاتها. يفكّ شحرور الحركة من كلّ هذه المرجعيات. ينتزعها انتزاعاً محافظاً على طراوتها وألفتها ودهشتها في الوقت نفسه. بعيداً عن التجريد الحركي وتعقيده، ينهمك في التقاط هذه الإيماءات السهلة والشائعة في ذاكرتنا الجسديّة. كما لو أنه يحاول العبث بصورة الحب نفسه في الثقافة المحلية وحتى العالمية. يقتطعها، ويضعها أمامنا على المسرح، بجماليتها التي تبدو مباشرة أحياناً، مثل سهم الحب، والعناقات البسيطة وإمساك اليدين كوداع أو لقاء. هزّات الخصر والكتفين، كيف يمكن لها أن تغلق حدقتي الموت إن لم تكن هي من يستدرجه. لا نتعرّف إلى العشاق في بداية حبّهم. نراهم في ذروة هوسهم، في ارتعاشهم وولههم قبل الهبوط على جسد الغائب.
اللغة العربيّة هي تلك الهالة التي تملي على الأجساد انهيارها وشطحاتها القصوى

كل هذا يدور على المسرح الذي يخضع تصميمه للثنائيات، بحيث يتقرّب كل جسد من الآخر بحثاً عن خلاص لا قدرة له دائماً على حمايته من تدميره الذاتي. هكذا لا يعترف الإخراج العام للعمل، بنقطة مركزيّة على الخشبة حيث تنتقل الحركة من زاوية إلى أخرى، ما قد يشتّت المشهد أحياناً، خصوصاً مع وجود خمسة مؤدين، وبالحالات الكثيرة التي يقدّمها العرض. ترافق الموسيقى الرقص ويرافق الرقص الموسيقى التي تأتي صاخبة لترفع من حدّة العرض والأجساد. برفقة إيقاعات شرقيّة على دربكة الفلسطينية سيمونا عبد الله، يحاول شريف صحناوي بغيتاره ومؤثراته الإلكترونية تهجين هذه الانسيابية والتدفّق. بالأيدي الممدودة لإطلاق الزغاريد، سنصل إلى مشهد احتفالي، وهو عند علي شحرور سيكون أشبه بعرس تأبيني، تنتقل فيه الأيدي إلى ضربات على الجسد والرأس. هنا يأتي الخيار بإدخال العازفين في لعبة الحب التي لا ينجو منها أحد أو شيء على المسرح. رغم خلو الخشبة من العناصر السينوغرافيّة، فإنها تشهد تحوّلاً كبيراً نزولاً عند جملة عمران «القلب/ تحويل الشيء عن وجهه، قلبه ظهراً لبطن/ والقلب قلب لتقلبه، لا يثبت على حال». الحب يستحيل مساحة واسعة لاختبار درجات الحبّ وتمثيلاته، ومساحة لتبديل المواقع الجندريّة. علي يهزّ خصره أمام حركات رأسي حلا وآية المستمدّة من الرقصات الخليجية. الراقصتان تحفان وجهيهما ببعض. إذا كانت الحركة عند شحرور فعلاً سياسياً، فإن المجاهرة بالحب بكل شاعريته التي قد تعتبر مبتذلة الآن تبدو خياراً سياسياً آخر: استعادة سيرة الحبّ منذ الخطيئة الأولى، بعرض يحتفي بالعاشقين وبالهشاشة التي دفعوها ثمناً لحبهم تحت وطأة السلطات الدينية والسياسية. كأن الموت هنا هو أحد أبعاد الحب الخفيّة.

* «ليل» لعلي شحرور: 20:30 مساء اليوم حتى 27 كانون الثاني (يناير) ـــ «مسرح المدينة» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/753010



ورشة جماعيّة
يجمع علي شحرور في عرض «ليل» تجارب فنية مختلفة، حيث النصّ والموسيقى والمشهدية هي جزء أساسي من الحركة. إيقاعات الفلسطينية سيمونا العبد الله تصنع مع ضربات اللبناني شريف صحناوي على الغيتار ومؤثراته الإلكترونية موسيقى العرض. الممثلة السورية حلا عمران تشارك رقصاً وغناء أداء صوتياً استثنائياً. أما مساهمة عازفة الغيتار والمغنية المصرية آية متولي كراقصة أيضاً إلى جانب علي، فتعدّ اكتشافاً يُظهر براعة شحرور التصميمية في استخراج جمالية الحركة من أجساد النساء غير المحترفات. ساهم الكل على طريقته، ضمن ورشة جماعيّة. بجوار تصميم شحرور وبحثه ورقصه، كتبت النص عمران مع جنيد سري الدين الذي تولّى دراماتورجيا العرض أيضاً. علماً أن العمل الذي يفتتح في بيروت اليوم، سيعرض بعدها ضمن جولة في أوروبا وأميركا.