في مناخ قاحل، وقاسٍ، وصحراوي، لا تكاد تصله الشمس، يصوّر الشاعر والمخرج المسرحي هاشم هاشم تحولات المناخ والسياسة العالمية ضمن سوريالية، تجمع معالم الاضطهاد، والاغتراب الإنساني، والظلم، والفقر. عرضه الجديد «سارق الشمس»، الذي يقدّم اليوم وغداً والأحد على خشبة «زقاق»، يشتمل على حبكة مسرحية مبسطة، ومستقبل مجهول، قد تزيد من وطأته سرديات الأمن المحلي والعالمي، التي ما فتئت تعيث ظلماً وسطوة وقساوةً في الأرض بحجّة ضمان مصالحها. في مدينة يابسة قضى سكانها على كل مساحاتها الخضراء، يقبع صاحب إحدى آخر النباتات في غرفة، ذات رطوبة عالية، وحرّ شديد، وجوّ أصفر. تبدو الغرفة كأنّ ما فوقها هو الأرض اليباب. يحاول صاحب النبتة (زيزفونة)، الاعتناء بها، وسقيها، وإنعاشها، آملاً أن تثمر وتزهر وتغطي أوراقها سماء المدينة بأكملها، بعد سنوات عجاف. إنها أقرب إلى محاولة لإعادة التوازن البيئي، بفعل ما وصلته المدينة من خراب. يفعل صاحب «زيزفونة» كلّ ما في وسعه كي تبقى إلى جانبه، وسط تهديد السلطات المحلية بإلقاء القبض عليه تحت ذريعة سرقة أنوار من الشمس، ما يزعزع أمنها واستقرارها ودورتها الاقتصادية. تحمل أحداث العرض طبقات متعددة، تبدأ بالبساطة والوضوح المعتمدين (تشبه كثيراً مسرحيات الأطفال) وصولاً إلى هدم النظام العالمي الجديد، المسؤول عن الفقر، والتصحّر، وانعدام الأمن، بفعل سرّديات كرّسها، على مدار عقود، في عالمي الجنوب والشمال. وعليه، يبدو نص هاشم هاشم واعداً وناجحاً، أكان لناحية التركيبة الدرامية، أو سير الأحداث، أو تكوين الشخصيات، بالإضافة إلى متانة الطرح في لغة مبسّطة تحمل شاعرية رقيقة، أسهمت في تدعيم الشكل الفني الذي اعتمده المخرج.
على مستوى الإخراج المسرحي، ترافق موسيقى (إنتاج وتصميم كارول أبي غانم) «سارق الشمس» طوال مدة العرض، وتزيد من حدة السوريالية، وتمنح جواً فانتازياً. وتترافق مع مؤثرات صوتية قوامها الآلات (الحديد، والسيارات) الآتية من فوق الأرض، التي تشكّل تجسيداً لنظامها الرأسمالي، في حين تشكّل الإعلانات الوطنية التي تبث بين الحين والآخر، على شكل شرائط صوتية مسجلة، تجسيداً لقوة نفوذ الأجهزة الرقابية وتغلغلها فينا. تأتي الإضاءة الدافئة لتزيد من قساوة المشهدية حيناً، أو تعمل على بث مناخ مغاير لكل ذلك، فتشكل معالم فضاء أسطوري أو بدائي يشبه ألوان الشمس. تتدلى من السقف أرجوحة، تمثل الطفولة، وإن يبدو هذا الطرح مباشراً، إلا أنه يأتي متناسقاً مع المناخ العام. ويغطي التراب البني الغامق، أرضية المسرح. يدفن صاحب الشجرة أوراقها التي تتساقط تباعاً، نتيجة غياب العصافير والحشرات. يعدُّ أوراقها المتبقية، لتكون ثماني وأربعين ورقة. يعود بنا الرقم إلى عام 1948 (تاريخ النكبة الفلسطينية)، حتى نتذكّر الممارسات الوحشية للأنظمة العالمية والديموقراطيات المزيفة، التي لا تلتزم باتفاقيات المناخ، وتسلّح أكثر جيوش الأرض همجيةً، التي تلقي بالمتفجرات، والفوسفور المحرم، والصواريخ الثقيلة، على مدننا في حوض المتوسط. الأرض ركام في الخارج، وتحت هذه الأرض، لا يزال شخص يتمسّك بشجيرة، إن صحّت التسمية، لعلّها تغطي المدينة بأكملها، وتعيد دورة الحياة إلى طبيعتها، لكنها تشكل تهديداً لأمن البلاد وفقاً لما تروّج له السلطات. يصوّر هاشم هاشم، هذا الطرح، الذي نشهده في مدننا من تضييق تمارسه السلطات الأمنية، على شكل دعايات إعلانية، تخرق هدوء المكان، المترامي عن الأنظار في المدينة. إنها الدعاية القومية، التي تدبّ الرعب والخوف في نفوس القاطنين، وتدعوهم إلى التخلص من الحشرات عبر المبيدات، ومواجهة الاكتئاب بالحبوب والمهدئات، بدل المواجهة والمقاومة والبحث عن بدائل تنظم سير الحياة. تتعمق النفحة الشعرية، في النص، مع سردية «زهدان»، الذي هرب بشجرته التي سمّاها «غجرية» إلى ضفة نهر، سمّمته السلطات لاحقاً، ما أدى إلى موت 40 ألف شجرة. تشكل هذه الاستعارة، أفقاً لتصور القمع الذي تبسطه السلطات.
يحيل إلى فلسطين وتسليح الديموقراطيات المزيفة أكثر الجيوش همجيةً التي تلقي المتفجرات والفوسفور المحرّم


على صعيد آخر، يحمل اختيار الراقص ألكسندر بوليكيفيتش لتجسيد دور الشخصية المسرحية إلى جانب هاشم هاشم، دلالات عدة. لألكسندر تاريخ في الصراع مع السلطات الأمنية والعسكرية والسياسية والدينية، التي تشكل منظومة متآلفة في قمع الحريات العامة، وتمارس التنكيل والتهديد. لذلك يحمل بوليكيفيتش الصراع الذي عايشه، ولا يزال، ويدمجه في قلب العرض. يفاجئنا بقدراته التمثيلية، من صوت، وجسد، وخيال. طوال العرض، نترقب أن يقدم لنا وصلة رقص، لحرية منشودة، أو أمل طفيف، لكن هاشم هاشم، لم يشأ أن ينفّس الجمهور بذلك. يبتر المخرج أعضاءً مِن جسد الشخصية الهش، ويجعلها عاجزة عن الحركة، أو الرقص، أو التعبير. يشكّل عرض «سارق الشمس» رؤية قاتمة عن مستقبلنا المجهول، وسط أمل طفيف ينبعث مع نور ساطع من بعيد، وعصفور يحلّق فوق الشجرة «زيزفونة». إنها الشاعرية، والعودة إلى الأسطورة، شيء يشبه الأحلام، وسط كل هذا الجنون. تنطفئ الشمس، شيئاً فشيئاً، وينسلخ الجسد المنهك وسط التراب، عن ذاته، نصبح أمام صورة متطابقة لجسدين (هاشم وألكسندر) حرّرهما الحب وقليل من الأمل. ينتهي العرض، ولا تسدل الستارة على جسدين شبه عاريين، يلبسان ثوب الإنسان البدائي، بل يميط العرض اللثام عن النظام العالمي والمحلي الفاجر، الذي يقمع الحلم والحب، على هذه الأرض.

* «سارق الشمس»: اليوم وغداً والأحد ـــــ س: 8:30 مساءً ــــ مسرح «زقاق» (الكرنتينا، بيروت). للحجز: Ihjoz.com