حضاراتنا النيوليبرالية تضيق ذرعاً بالخصوصية والتعددية مهما كانت أشكالهما. حضارة اليوم مملّة بشكل فظيع. بتّ ترى ناطحات السحاب، ومطاعم «ماكدونالدز»، وهيبرماركات الـ«ايكيا» على امتداد خريطة العالم. الشركات والمصانع يتكاثرون، يفتحون فروعاً لهم في كل بقعة جغرافية يصادفونها على صعيد الكوكب، يتناسخون وكأنهم بحالة من التكرار المزمن، وما هذا التكرار سوى رتابة، اجترار يشير إلى نهاية تاريخ الإبداع البشري. هذه العولمة العمرانية، والاقتصادية، وحتى الأخلاقية سجنت الإنسان «ذو البعد الواحد» بتعبير هربت ماركوز، بين أربعة جدران في «كومباوند»، واختزلت غايته الوجودية في الاستهلاك. حضارة اليوم مملة بشكلٍ فظيع؛ فقد عززت التوحّد عند الإنسان عبر شاشات الأشعة الزرقاء السّامة ومن خلال الإعلانات التي تعيد برمجة اللاشعور بغية تعبئة الحسّ العام ودفعه نحو المزيد والمزيد من الاستهلاك.
داندي، كريستيان هياتزي

إذا كانت أمم العالم الأوّل تشعر بتهديد من قبل هذه الحضارة مرّة، فإن شعوب العالم الثالث مهمومة بهذا الملل العدميّ جداً. فعوضاً عن بناء المستشفيات، والجامعات، وتخصيص مساحات عامّة أوسع تكون بمثابة فضاء عام تتفاعل فيها المجتمعات المدنية، تتسابق الدولة البوليسية في العالم الثالث على بناء الـ«مولات». يجيء هذا الولع بتقليد الغالب/ المهيمن أمام تراجع الحضاري العالمي وفقدان الأصالة وتبنّي التقليد، فيغيب الحدّ الأدنى مما هو لازم للإنسان ليحيا حياة كريمة ومبدعة، على هذا النحو، نرى كل أشكال المنتجات والسلع المستوردة، وأبراج وعمارة «حديثة»، بوقت لا يتوافر لنا أي من مستلزمات الحياة الأوّلية مثل تأمين الصحة، والتعليم، والاستقرار، والاستقلال السياسي. لذلك لا بد لإنسان اليوم، سواء كان في شمال الأرض أو جنوبها، أن يبحث عن الارتقاء بـ«نظرته الوجودية»، لتسمو فوق واقعها المقولب من طرف «الشركات متعددة الجنسيات» و«الحكومات السلطوية»، وتكون بمنزلة الخلاص، بالأحرى إعادة الإنسانية إلى الإنسان نفسه. هناك دعوات جاءت من بعض النخب الثقافية مفادها أن نحيا «حياة شاعرية» لكي نواجه واقع «الصورة والاستعراض» الذي يطفو على حياة اليوم، وعلى أحدنا الاقتداء بها.
فإن أردت البقاء على قيد الحياة، والانغماس بحضارتنا المملة، فاكتفي إذاً بكونك متفرّجاً سلبياً يتلقى كل ما يبث له، على هذا النحو، يمكنك أن تعيش على هامش الحياة وكأنك عالة عليها. أما إذا أردت أن تحيا فمعناه أن تخاطر بحياتك، وعلى مستوى أعلى إذا قررت العيش شاعرياً، فمعناه أن تتشرّب الشعر حتّى تصبح ذاتاً شاعرية، أي أن يصبح الشعر كياناً ثانياً يزاحم كيانك الأصلي الذي ترى الوجود من خلاله. فمن امتلك هذا الجهاز الشبيه بالنظارات الوجودية ولبسها، سيكون أقرب لمن يتكلم لغة إضافية إلى جانب لغته الأمّ، فيصير له روحان، من خلالهما يتفاعل مع العالم.
بالإضافة إلى كون الشاعرية هي إعادة تعريف لما يجري من حولنا باستمرار، فهي تحديداً، مقاربة أخرى لمهنة العيش؛ إنها وعد بما هو «أوسع». فالشاعرية هي خزان دهشة لا ينضب لأنها بوجهٍ ما، نمط عيش، وسلوك ابتكاري، من شأنه أن يعلي من شأن كل من «العاطفة» التي هي قائدة العالم بحسب الروائي ياسمينة خضرا و«الجمال» الذي «سينقذ العالم» بحسب تعبير دستويفسكي، و«التعبير الفني» الذي لو لم يخترعه بنو آدم لماتوا من الحقيقة على حدّ قول نيتشه.
من الممكن أن تعاش الحياة الشاعرية بطرق مختلفة من طرف أشخاص مختلفين ومع ذلك، فهي تنطوي على مميزات ثابتة، منها: الانتباه الحاد لتفاصيل الحياة اليومية وللّحظات الصغيرة الهامشية باعتبارهما مصدر إلهام وتفكّر. بيد أن الشاعرية تستلزم بدورها حساسية طافحة تجاه المشاعر والتجارب الداخلية. فالأشخاص الذين يُقبلون الحياة الشاعرية بالإقبال عليها هم أكثر استقبالاً للإحساسات والمشاعر والعواطف. هكذا تراهم يبحثون عن التعبير عنها بأشكال فنية مختلفة كالشعر، والموسيقى، والرقص، والرسم أو باختصار عالم الفن والفنون. إذاً، إن الحياة الشاعرية تشجع الغوص في أعماق الذات بغية اكتشافها، كما أنها تصون الذات من التسليع، وتحميها من الاستهلاك الذي يهدد هويتها. فالشاعرية هي منفذ للتعبير الأصيل، وهي دعوة إلى اقتحام مسرح الحياة بعيون جديدة يملؤها شغف التفتيش عن الجمال والعثور عليه في أكثر الأماكن اللامتوقعة، وصقل الوعي على الجمالي والعاطفي الذي يحيطنا. إن الشاعرية هي احتفاء واحتفال بالإبداع والتأمل والتعبير، باعتبارهم أساسيات جوهرية لوجودنا المؤقت والخاطف على هذه الأرض.
المفكر العظيم والذي جاوز المئة سنة من عمره، إدغار موران، قد توصل إلى خلاصةٍ بعد خبرة معيشية طويلة وثرية ميزها النشاط الاجتماعي، والنضال ضد الكولونيالية ومسيرة علمية حافلة توّجت بعمله الفريد «المنهج» (la méthode) مفادها أن الحبّ ولو كان أفلاطونياً، هو محرك قوي للحياة التي ينبغي أن نواجهها محملين بقيم إيروس، كالأخوة، والصداقة، والتضامن، وأن نتحلى بقدر كبير من الشفافية والوضوح كي لا نعمى من طرف ما أسماهم رمزياً «حوريات البحر» (Sirene) اللواتي يشغلوننا بالقالب عن الجوهر. وفي هذا دعوة من الفرنسي إلى أن نحيا حياة شاعرية. حياة عاشها هو، ووظف في سبيلها فكره المركب، المولع بإيجاد جسور بين مختلف التخصصات، في سبيل حياة خلّاقة لا تلبث تعيد تعريف تفاصيل العالم من حولنا، والتي يقاوم الإنسان من خلالها الموت، والرتابة، والاعتياد، والضجر.
و«لأن القصيدة في كلّ شيء» كعنوان قصيدة باذخة في الشاعرية لواحد من أهم من يمسكون جمر الشعر في حقبتنا المعاصرة، ألا وهو الشاعر البديع محمّد عبد الباري، فلمَ لا نجعل من هذا المطلع الشعري وسماً شاعرياً لحياتنا قائلين: «المجد الحقيقي هنا». وهذه العبارة هي عنوان لديوان شعر لفرنسوا شانغ، والذي يعده النقاد مانفيستو لما يسمى بـ«الحياة الشاعرية». ومعنى العنوان أن المجد أولى بالأرض من السّماء، فـ«على هذه الأرض ما يستحق الحياة» كما يقول شاعرنا محمود درويش. لكن لكي تنزلق بجدارة تحت سطور هذا الشطر الشعري، فينبغي أن لا يضيق صدرك بالحب في أوّل يوم للحرب، وأن ترضى بالماء والخبز لأنك تدرس اختصاصاً تشعر بالشغف تجاهه، وقد تنسى موعد الباص ما سيفوت عليك النوم لكنك لا تأبه لكل هذا لأنّك بكل بساطة تحيا الشعر حتى بات (الشعر) صنوّاً لك. فالشاعرية، وهي الهروب من «السوق» والدعوة الوحيدة لتكون أنتَ متفتحاً على العالم ومنفتحاً على نفسك، تتطلب منك تحمل رائحة العرق المنبعثة من إبطيك، والتي تحرق عينيك، وتؤجل (رفاهية) حمامٍ منعش كرمى لعيون نص تكتبه بشغف. ستستمتع كذلك بماكرونة والدتك عشية انقلاب عسكري. إن المرونة الذهنية والوجدانية العالية كهذه تقربنا من تعريف كريستيان بوبان للشعر بأنه «ذلك اللّاشيء القادر على كلّ شيء».
ينظر بعض الفلاسفة على أن لغة الإنسان الأولى كانت الشعر. وكأن الشعر هو نصيبه من الصواب الذي يستأنس به. إلا أن هذا مما يشم ولا يفرك، ويختبر ولا يخبر عنه. هذا ما يؤكده حضور الشعر كمصدر من مصادر ذاتنا العميقة على امتداد الثقافات الإنسانية جميعها: من المعلقات الجاهلية، وحكمة المعري والمتنبي إلى المهابهاراتا الهندية ذات الطبيعة الثيولوجية، مروراً بطبيعة الأشياء للوكارتيوس، الكتاب الذي يعد وثيقة أنثربولوجية خاصة بالرومان، إلى النشيد الشامل لبابلو نيرودا الذي يؤرخ تاريخ وجغرافيا أميركا الجنوبية، إلى أشعار جون فرانسيس برتون، وبودلير، وهولدرلين، وتراكل، وإيدغار آلان بو، وريلكه.
إن الشعر يجعل الحياة محتملة أحياناً في حين أن الشاعرية تجعلها محتملة دائماً.