بقينا في تلك السهرة على تلٍّ في العيشية، نطعم النار الجَوعى بما أوقدنا لها. كانت النار قد التهمت ظهيرةً بعَصرِها، وهي تُكملُ على ما بقي من كَسرة النهار. نهار خريفيّ جلسنا فيه بحماسة ودَعَة إذ كُنّا شلّة ممتعة. نراجيل تَغرق، ودخان يصعد ويتبدّد سريعًا.. وبين ذلك تصعد الفيزياء والأدب والخرافة والفكاهة المُمِرَّة المحرقة، ويحضر الجدل مخاصمًا مخاصمات كبيرة كالجنّة والنار والبرازخ والحقائق: حقيقة المرء والحياة وما بعدها... ومخاصمًا في أمور السياسة والتاريخ القريب، ثم منزلقًا إلى مخاصماته الحقيقية. كلّ خصام يودي إلى هذه الهاوية: خصام الأنفس بعضها بين بعض، الخصام الضيّق، الذي يُغلَّف أحيانًا بفكاهة هشّة، الخصام الذي يضيق ويريد الانتقام للنفس المعذّبة المقهورة، لجثث نامت قرب المنامات طويلًا.كنّا نتهافت على الأجوبة، يحمل ذكاءنا النطّاطَ حُمقٌ وعجَل، تدفعه من الخلف رغبةٌ أصيلة وملحّة بالانوجاد ودفع العدم. لأنّك إن تابعت ذيولها - أي الرغبة تلك - وتبعت جذورها تصلْ إلى حوافّ أجرافٍ هاريةٍ تتدلّى منها جذور ممدّدة في الفراغ.. كلُّ العجَل والحمق والنزق دفاعٌ عن الوجود ودفعٌ للعدم.

(لاسلو أنتال - 2019)

كنا نذهب ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال كثيرًا أو قليلًا: نغفر لنا ونستاء. هل أحيتنا أمّهاتنا أم قتلتنا؟ متى نخرج من بيوتنا أبدًا؟ ومتى نلوي معصم الحياة الصعب؟ ونجني ثروات؟ ناقشنا طويلًا طفولاتنا وحياتنا منذ ما قبل الولادة حتى البعث، طويلًا بسهرات في السيارات والحقول والزواريب حتى الصباح. أولادُ آخر الثمانين نحن، البينيّونَ المتردّدون الأغاسقُ الطوالُ المِلاحُ المعروفون دون أن يُعرفوا، الذين مُرّغوا في طفولاتهم تمرّغًا لا يزال محفوظًا في النظرة والبسمة، والذين تأمّلوا طويلًا في الخطوط قبل كَسرها ووقفوا طويلًا أمام المرايا وحاروا بأمرهم، فيما كان أولاد المدارس والجامعات يحاولون أن يمضوا في حياتهم مثل جَمع سمك منتظم في اللحظة، مثل سمك صغير مبرمَجٍ في بركة لا يَعرفُ منها سوى أن يحصلَ على حصّة من وجوده. أما نحن، أبناءَ الهوامش والكوارث، فكنا نغرّد تغريدًا سيحصده كلّ منا بشكل ولون: أدبًا، وقودًا لنجاح، أو تغييرًا للمسار. لأنّا أمضينا أوقاتًا طويلة أكثر من اللازم وأكثر من غيرنا كثيرًا، في تقليب المسألة وطرح الأسئلة حتى تهلهلت العقد المحيطة حولها، وصار أسهل فكّها لإعادة صوغ الكرة صوغًا آخر كما تريد، كرة حياتك. وبعضنا عاد ولحق بركب سمك البركة!!
وفي كلّ هذا، كان الوقت وراءنا يسيل مرتاحًا على الشجر. لم نكن نراه، كان يتدفّق كبلاء خفيّ بين أرجلنا التي امتدّت نحو النار. تَكَّ الوقت أعمارَنا وسال على وجوهنا ورقابنا النابضة وعيوننا النيون بأكثر من لون، وضحكاتنا المكشّرة تحت نار لا تفعل غير ما تُجيد: تلتهم. حينها، كان يمكنك بسهولة أن تسأل وأنت بين رهطك المكوّن من عشرة أو أكثر من أصدقاء طفولتك أو صباك أو ما بعدهما، أن تسأل النار: ماذا تريدين؟ ومَن تريدين؟ هل تأخر وقت السهرة؟ كم تأخرتُ - نا؟ ماذا سنصنع بالعجين؛ عجينِ أنفسنا التي أفقنا على أنّها قابلة؟ وعجين شخوصنا التي لم تُرضنا. لم يرضنا وآلمنا أنّا لسنا أبناءً تمامًا وأنّ آباءنا ليسوا آباءً تمامًا (سنفخر بذلك في ما بعدُ).. حصص كبيرة من أرواحنا مشاعٌ لموج أنوار الوجود وموج ظلماته، المدبَّر - المدبِّر واحتمالاته المقدَّرة، اللاعبِ ألعابَه المؤذية الرحيمة، الناظر إليك بعين واسعة عارفة مبتسمًا من وراء نظّارته إلى قِطَع روحك الصِفر تلك: التي ليست ابنة المكانِ ولا جمعِه ولا ابنةَ أبويكَ ولا حتى ابنتكَ أنت. وناظرًا بإعجاب إلى حصصك الحرّة التي يعوَّل عليها، التي لم تحبَّها أولًا، ثم ستعشقها لأنها أملُك الوحيد، لعلمك! لأنك ابنَها ستكون، لأنها أمّك. وستكونُك، ستكونها، يا لك من أعمه لم يدرك معناه إلى الآن، قد رشفَ المعرفة من أنابيبَ وقوارير متعدّدة بلا كثير صبر على النظر في حبّة الخردل العميقة! أساءنا كثيرًا قبل ذلك أنّ أقراننا، سمك البرك المدجّن منجَز ومشغول جيدًا: أولاد كبار حفظوا دروس آبائهم وقلّدوهم إذ نفخ الآباء أرواحهم فيهم كما هي وأرضاهم ما صنعوا. نسخوا نُسَخًا منهم فأنتجوا مرايا عكستهم بلا إدهاش، وعكست حسرتها هي. بعد سنين سنسخر من ذلك: منجَزٌ على ماذا؟ على حدودٍ حَدّته وصنعت منه عاديًا مكررًا لم يلفت الحياة ولو لحظة، ثم سيفيق هو عليك بعد ذلك!! افتخرنا إذًا بصفريّتنا بأرواحنا التي بلا ملامح، لأنّا أدركنا كم نحن أحرار من البرنامج والقوالب فكانت ملعقة ذهب لا تقدَّر، إذ هي الباب الأوسع إلى مملكة صناعتك؛ صناعةِ روحك والرجُل الذي تريد، مقلّبًا الموديلات الموجودة كزبون صعب ثم مقترحًا موديلك على هواك ومنكبًّا على صنعه.. سيبزّ السمك جميعًا ويضحك ضحك جنديّ عاد من حرب الوجود منتصرًا. أدركنا أنها الأمل الوحيد فينا ورحمة الله حقًا. وافتخرنا، وشكرنا البلاء الذي أُصبناه، لأنه الصفعة الرحوم التي أفاقتك من كثافة الحلم المحيط بك، الذي تنشّقته طويلًا.
في لحظة العمر تلك، التي جمّدت صورًا مُملَّحةً جوانبُها طازجةً ملامحُ شخوصِها، في تلك اللحظة لم تكن تتصوّرُ ولو ذرّةً أنّ كل ذلك سيفنى، سيحترق ثم سيذهب كلٌّ وحدَه وحيدًا بخوذة غير منسجمة في موجته ليختبر الآن كلّ ما رآه من قبلُ، من كوّة الجدار ذاك دون مجال للعودة.. وكنّا نشعر ونحن على حافَة الرحيل أنّ هذا هو المجلس الأخير، السهرة الأخيرة، لكن دون اعتراف أو مواجهة حتى بين المرء وقلبه، فكنّا نداري خوف المغادرة والرغبة بها.
أطعَمْنا النار كلّنا بأيدينا المشحّمة، وبضَحِك مطَحطِحٍ وضحكٍ سافرٍ وضحكٍ فتّاك كضَحِك نصّابي الأسواق، أطعمناها بأيد تضرب على جدار الحياة مستهديةً طريقها. أطعمها كلٌّ ما طالت يدُه: جذوعَ ذكريات شاخت، وتماثيلَ صغيرة لنا؛ نُسَخَنا المحرجة غير المعدّلة. وكنّا نبتهج بحمقٍ لاحتراقها، إذ لا يكفي إحراق تمثالك. وسنعلم أنّ ذلك يتطلّب عمرًا ويستحقّ ذلك، لذلك سنفهم بعدها معنى العمر ومن ثَمّ معنى الحياة.
ثم كبرت النار، كبرت ووجوه حولها تهتزّ وضحك صار يبدو بعيدًا. كبرت النار واقتربَت، ورأيتُ فيها أولادًا كبروا يجمعون الحطب ليشعلوا نارًا وقد تحلّقوا حولها، وعلى نُقَع ماء على البسكليتات عبروا بشعور مبلّلة. ثم رأيت سيارة بيضاء دارت طويلًا حول النار، سيارة مرسيدس تلتفّ ممتعضة من البرد والحرّ، تلتفّ منزعجةً من وجودها بزمّور طويل، تلتفّ وقد ابتلعت كلّ المسافات إلى البيوت، وكلّ طرقات البحار.. التفّت حول النار على عَجلٍ؛ عَجَلِ طَبْع، عجلِ ولادة، عجَل رَهَقٍ، عَجَلِ صِبى، عجَلِ رجولة، عَجَلِ حياة، عجَلِ فناء، ثم دخلَت.. بدت لي خلفيّتُها فقط وقَفا رأس السائق، ابتلعتها النار.. في تلك الليلة ابتلعت النار حقولًا، وشموسًا، وأسماءً، ومشادّاتٍ وقهقهات.. ابتلعت الهواءَ والشجرَ وعصفَ أيلول المباغت، ابتلعت الأمكنةَ، والشواطئ والشمس وأولادًا واقفين بخوذات مضحكة أمام بحر لعين.
ثم في ما يشبه الضحك من شدّة البكاء، اتكأتُ لأضع يدي على عَليٍّ فباغتني ضحكه من بعيد، عدت إلى جانبي أتكئ على أحمد.. كان قد ابتعد، أفَقتُ! ثم نظرت إلى النار، كانا يرقصان دون أن أقبض عليهما، صارا نارًا. وقال لي عليٌّ الواقفُ الراسخُ من ورائي، الرفيقُ العَضُد بنظرتِه الواسعة النقيّة: "لقد رحَلا في الموج المشتعل"، والنار تبعث ألسنةً بألف صورة ممّا ابتلعت، أعادتها منظَّمةً ومختَلِطة ومكسّرةً، أعادت المشادّات خرساءَ لكن أخرجَتها من سياقها فصارت مشادّات ونزاعات بينهما والنارَ، أعادت كلَّ شيء قبل أن يكون وغيّرته، لكن لا مهرب فقد كان وانتهى.. نظرت فيها وقد أتت على كل شيء، نظرتُ في نار الذكرى وعيناي مبتلّتان بلؤلؤتَي دمع تحفظان النار اللاهيةَ اللاعبةَ العابثةَ بنا، وهما تَسقطان وتنثرانِ كلَّ شيء، تنثرانِ نارًا ووجوهًا وكراسيَّ وحيدةً تكسّرت أقدامها في العاصفة، وتنثران شعرًا وموسيقى وقهقهاتٍ حتى الفجر، وملاسناتٍ جادّةً يا الله، وأسئلةً عميقة.. انتثرت الفِراسةُ والدهاءُ الطريُّ كهِجرس ثعلب، وكؤوسٌ طاحت.. واندلق الكلام والتماثيل والمحاجّات الثقيلة.. اندلقت عشرُ ليالٍ خمسَ عشْرةَ ليلةً - سنةً.. سُيّلَت ثمانينيّاتٌ ودخل ماؤها في التسعينيّات واندلقت معًا دفعةً مؤلمةً.. قلت لكم إنّ عصف أيلول مزعج!
ثم أسلمت وجهي لها ودخلت. شعرت بدفء، هل تشعران بالدفء مثلي؟ هل تشعران بدفء الخروج في عزّ البرد ودفء العودة عند الثالثة، وبدء سهرة ثانية بعدها في سيارة بيضاء تحت مطر حانق؟ هل تشعران بالهرب من البيت ومَن معه سيارة يكون المنقذ؟ هل تشعران بأصياف تتمدّد كقطط حول ظلال فِتية تحت حورةٍ ومصباح شارع؟ هل تشعران بشيء؟ برمل بحر غافٍ في الجيوب؟ بالصوم بالإفطار العَمد؟ بالجدّ والهزل؟ بقصص الحرب والهرب والعودة والرحيل الأبدي؟ "بالمارلبورو" الأحمر و"الكنت" الأزرق؟ بليالي الأحلام وأوهام النساء والتسكّع حتى الفجر؟ بالمساجلات على سروٍ عالٍ عال؟ بمحاورات وملفّات لم تغلَق إلى اليوم؟ بأسئلة طرحناها في الأزقّة فنبتت حيواتٍ؛ حيواتِنا، وأثمرت أجوبة طيّبةً وأجوبة مرّة يا أصدقاء؟ بصور "نيغاتيف" مشعّة لفتية يتفقّد كلٌّ منهم وجهَه ويديه وكلَّه مطمئنًّا إلى أنه لم يُنهَب ولم يُفقَد ولم يتِه تيه الجمع، وأنّ فوقه غيمة خفيّة ترافقه منذ الولادة؟ احترق كلّ ذلك: احترقت البلاغةُ والضحك والمنازلات وأنا أسأل.. ثم صرنا نارًا، تبدّدنا معًا وذهبت مراكبنا يبحث كلٌّ منها عن النار.

كُتبَت تحت وطأة ذكرى شِلّةٍ طاعنة ألّفها ثلاثة أصدقاء، دخل فيها مَن دخل وخرج مَن خرج، وأقمنا فيها طويلًا وغادرناها كلٌّ في وجهة.. ولعلّنا نلتقي..