على نحو متوقّع، بدأت المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، والخاضعة لسيطرة تركيا في الشمال السوري، تشهد حالة فوضى تتخلّلها هجمات على مقرات وشاحنات ونقاط عسكرية تركية، بالتوازي مع فوضى مشابهة تقريباً في الداخل التركي، على خلفية هجمات يشنها مواطنون أتراك على ممتلكات ومصالح سوريّة. ومثل شرارة تلك الحالة تعرّض مجموعة من السوريين لهجمات في منطقة قيصري، بعد تداول أنباء خاطئة عن قيام مواطن سوري بالتحرّش بفتاة تركية، قبل أن يتبين أن السوري، الذي ألقي القبض عليه، تحرّش بفتاة سورية، وأن القضية تمّ طيّها بعد تدخل الشرطة. وإثر ذلك، بدأت موجة من العنف الموجّه ضد السوريين، شملت مناطق عديدة في الداخل التركي، وردّ عليها السوريون بهجمات على المصالح التركية، لتقابل بعض هذه الهجمات بردّ تركي عنيف تخللته حوادث إطلاق نار تسببت بمقتل عدد من المحتجين، وإصابة نحو 50 آخرين، الأمر الذي زاد من اشتعال الموقف. وكانت تركيا عمدت، خلال السنوات الماضية، في سياق محاولات تتريك الشمال السوري، إلى إتباع المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق لسلطة والٍ تركي، كما قامت بإنشاء فروع لدوائر وشركات حكومية تركية، إلى جانب وجودها العسكري في نقاط عديدة من الشمال وحتى الشمال الغربي، الأمر الذي يجعل استهداف مصالحها أمراً سهلاً، حتى بعد أن قامت بتدعيم قواعدها خلال الأسبوعين الماضيين. وبينما لا تّعتبر الهجمات التركية ضد الوجود السوري في تركيا مفاجئة، في ظل تناميها المستمر منذ بضعة أعوام، مثّلت ردة الفعل في الشمال السوري حدثاً يمكن اعتباره غير مسبوق، سواء من ناحية الانتشار الواسع للفوضى، أو من ناحية الحدة، إذ أقدم سوريون على حرق العلم التركي، وهاجم آخرون جنوداً أتراكاً، في حين خرجت تظاهرات مناوئة لأنقرة، تتهمها بـ«بيع المعارضة السورية» على خلفية مساعي التطبيع القائمة مع دمشق. وفي المقابل، وفي محاولة منها لضبط الفوضى، أعلنت تركيا إغلاق المعابر الحدودية مع سوريا، بشكل مؤقّت، كما قامت بقطع الاتصالات عن بعض المناطق والتشويش عليها في مناطق أخرى، في وقت خرج فيه وزير الداخلية التركي، علي يرلي كايا، معلناً القبض على 474 شخصاً على خلفية عمليات التحريض في ولاية قيصري، بالتوازي مع عقد اجتماع عاجل مع عدد من قادة الفصائل الموثوقة، والذين أوكلت إليهم مهمّة ضبط الشارع، في وقت عقدت فيه فصائل «الجيش الوطني» المعارض التابع لتركيا، اجتماعاً خرج ببيان يلاطف الأخيرة ويدعو إلى التهدئة.وفي هذا السياق، تقول مصادر ميدانية، تحدّثت إلى «الأخبار»، إن «الشرطة العسكرية» التابعة لـ«الحكومة المؤقتة» المعارضة المرتبطة بـ«الائتلاف» ألقت القبض على 46 شخصاً حتى الآن، بينهم أشخاص نشروا فيديوهات للهجمات التي تمت ضد المصالح التركية وأخرى إحراق العلم التركي، أو إزالته. ويأتي ذلك وسط توقّعات بأن يتم نقل المعتقلين إلى تركيا لمحاكمتهم، في وقت انتشرت فيه دوريات أمنية تابعة لـ«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة - فرع تنظيم القاعدة سابقاً) في شوارع إدلب وقرب النقاط العسكرية التركية لمنع أي هجمات من قبل «فصائل غير منضبطة»، وفق تعبير المصادر، التي أكدت أن «اجتماعاً مماثلاً عقده مسؤولون أتراك، وقطريون، مع «هيئة تحرير الشام»، شرح خلاله القطريون والأتراك مخاطر الانفلات الأمني، وتأثيره على الموقف التركي الذي قد يتخلى عن حماية المعارضة». وعلى هذه الخلفية، تمكّنت التحركات التركية العاجلة والوساطة القطرية، حتى الآن، من ضبط الموقف وتهدئة الشارع الذي خرجت فيه تظاهرات عديدة، بعضها تخلله تشييع قتلى حوادث إطلاق النار، غير أن هذه التحركات لم تقترب من النقاط التركية، التي كثّفت فصائل من المعارضة السورية حمايتها.
وبالتوازي مع حالة الفوضى التي يعيشها الشمال السوري، أصدر «مجلس سوريا الديموقراطي» (مسد)، الذراع السياسية لـ«قوات سوريا الديموقراطية» (قسد) بياناً يدعو إلى الحوار مع الفصائل السورية المعارضة، في ما يعيد التذكير بخطة أميركية قديمة – جديدة، تهدف إلى توحيد المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة، خصوصاً أن التقارب السوري – التركي يمثّل للأكراد الذين يقودون «قسد» خطراً وجودياً مماثلاً للخطر الذي تستشعره المعارضة السورية، إذ تخشى الأخيرة أن يكون مصيرها مشابهاً لمصير المعارضين المصريين التابعين لجماعة «الإخوان المسلمين» الذين قام الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، بالتضحية بهم على خلفية الانفتاح على مصر، ما يفتح الباب أمام أسئلة لم تحصل المعارضة حتى الآن على إجابة وافية تركيّة عليها، لتبقى هذه الإجابات مرهونة بالتوافقات المنتظرة خلال اللقاءات المرتقبة التي ستحتضنها العاصمة العراقية بغداد.