لا تمتلك الولايات المتحدة رؤية واضحة للحلّ في سوريا، سوى بتثبيت الوضع القائم، واستفادتها منه قدْر المستطاع، من خلال احتفاظها بوجود عسكري محدود في الشمال السوري، حيث تُواصل دعْم حلفائها الأكراد، وتنادي بإقامة منطقة حُكم ذاتي لهم، ستكون في ما بعد - في حال تحقُّقها - تحت حمايتها، وإنْ كان في ذلك بعض الوهم، في ظلّ تشعُّب مسارات الحلّ، وكثرة اللاعبين على الأرض السورية. وفي هذه النقطة تحديداً، ثمّة ما يُقلق واشنطن إزاء مسألة تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، لأن من شأنه أن يكثّف الضغط على «قوات سوريا الديموقرطية» لفكّ ارتباطها بالولايات المتحدة، وأيضاً على الأخيرة لسحْب موطئ قدمها المتبقّي في سوريا، وهو ما سيمثّل مكاسب إضافية لروسيا، ضامنة المصالحة وراعيتها. مع هذا، تُبقي واشنطن على موقف ضبابي ممّا يجري، في حال وصول محاولة التطبيع بين الجارتَين إلى خواتيمها المبتغاة، وعودة العلاقات بينهما، ليس إلى سابق عهدها طبعاً، بل إلى حالة المهادنة واللاعداء. وهي حالةٌ تكفي لتثبيط المشاريع الأميركية في شمال شرق سوريا، ولا سيما أن الرئيسَين التركي رجب طيب إردوغان، والسوري بشار الأسد، متّفقان على هدف منْع إقامة منطقة حُكْم ذاتي في الأجزاء التي يسيطر عليها الأكراد هناك.ولعلّ نظرة سريعة على العلاقات الأميركية - السورية، ستُظهر أنها لطالما كانت «باردة وإشكالية»؛ إذ إن «دعْم نظام الأسد (الأب) للإرهاب، وانحيازه إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وتدخّله في لبنان، واستخدامه للأسلحة الكيميائية، وعداءه المستمرّ لإسرائيل، جعلت بلاده هدفاً للعقوبات الأميركية»، وفق ما تقرأ نيكول روبنسون في مؤسّسة «هيريتدج»، تاريخ العلاقات، والنظرة الأميركية إليها. وتحوّلت الأواصر، مرّة أخرى، إلى الأسوأ في عام 2011، مع اندلاع الأزمة السورية، ما حدا بالولايات المتحدة إلى مقاطعة دمشق دبلوماسياً وفرْض عقوبات عليها. وسمح الفراغ في السلطة، تقول الكاتبة، «لِما يسمّى الدولة الإسلامية (داعش) بإنشاء ملاذات له في العراق وسوريا. وفي عام 2014، شكّلت أميركا تحالفاً دوليّاً واسعاً لهزيمة التنظيم. وبحلول بداية عام 2019، هُزِمت «الخلافة» الإقليمية. ومع اكتمال مهمّة مكافحة الإرهاب، خفّضت إدارة (دونالد) ترامب الوجود العسكري الأميركي من 2000 إلى 900 جندي لمواصلة دعْم وتقديم المشورة لقوات سوريا الديموقراطية التي تقاتل داعش، الذي ركّزت السياسة الأميركية، منذ ظهوره، على تقديم المساعدات الإنسانية للمناطق المتأثّرة بالنزاع، والتخفيف من نموّ الإرهاب، والتوصّل إلى تسوية سياسية في سوريا من خلال دعمها قرار مجلس الأمن الرقم 2254».
بالتبسيط المتقدّم، تختصر روبنسون الوجود الأميركي في سوريا، وكأن جلّ ما تفعله هناك هو من أجل راحة الآخرين، وحتى لا يستعيد الإرهاب نشاطه. وهي تعترف توازياً بأن «خيارات السياسة الأميركية في سوريا محدودة»؛ ومع ذلك، «يمكنها أن تحدّ من تهديد داعش، وأن تؤثّر على نهج الحلفاء والشركاء، وأن تدعم الإغاثة الإنسانية». ولكن، لا يمكن إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن تَنظر في الاتجاه الآخر، بينما تقوم بعض الدول بتطبيع العلاقات مع الأسد. وفي هذا الجانب، اكتفت واشنطن، حتى الآن، بدعوة دول العالم قاطبة، إلى عدم تطبيع علاقاتها مع دمشق، كما جاء على لسان الناطق باسم «الخارجية»، نيد برايس، الذي أكد «(أننا) لا ندعم الدول التي تعزّز علاقاتها أو تُعرب عن دعمها لإعادة الاعتبار لبشار الأسد، الديكتاتور الوحشي»، حاضاً إيّاها على أن «تدرس بعناية سجلّ حقوق الإنسان المروّع لسوريا على مدى السنوات الاثنتَي عشرة الماضية».
يرى البعض أن هدف الولايات المتحدة يجب أن يقتصر حالياً على ضمان أن يعترف أقلّ عدد ممكن من الدول بالنظام السوري


وإزاء هذه التطورات، يبدو السفير الأميركي السابق لدى سوريا، روبرت فورد، شديد الارتياب، وإنْ كان يعتقد بأن عملية التقارب التركية - السورية لا تعدو كونها «لعبة سياسية بين الأتراك في عام انتخابات»، في ظلّ المصاعب التي يواجهها إردوغان، الساعي، بحسبه أيضاً، إلى «كسْب بعض المزايا في الشمال السوري، في مواجهة دمشق وموسكو والإدارة الذاتية»، وأيضاً إلى التحلُّل من عبء اللاجئين وتجنُّب موجة لجوء جديدة. ولكن فورد الذي استبعد قبل شهر واحد فقط، في مقالة بعنوان «التقارب التركي السوري لا يزال بعيداً»، أن يرى صورة تجمع إردوغان «الكئيب» بالأسد «المبتسم»، اعترف في مقالته الأخيرة في «الشرق الأوسط» بعنوان «أوهام عملية سوريا»، بأن مسألة التقارب مع النظام السوري تحظى بشعبية في أوساط الشعب التركي. لهذا، يحتاج إردوغان إلى أن يُظهر لهؤلاء أن «ثمّة عملية سياسية تبدأ»، يَتوقّع منها فورد، على أقصى تقدير، تعاوناً بين أنقرة وموسكو ودمشق لـ«معاونة القوات السورية الضعيفة والقوات الروسية للسيطرة بدرجة أكبر على منبج وتل رفعت». ولكنّه يبدو متأكداً من أن إدارة «الحكم الذاتي» - وبالتالي الاحتلال التركي - ستبقى قائمة في المدى المنظور. ولذلك كلّه، يقول: «جاءت استجابة واشنطن معتدلة»، فيما يشدّد في المقابل على أنه ليس في مستطاع البعثة الأميركية إلى سوريا تسوية مشكلة «داعش»، أو الصراع بمجمله هناك. من جهتها، تدعو روبنسون الولايات المتحدة إلى أن تكون «واقعيّة» في شأن ما يمكنها تحقيقه هناك، وأن توضح لحلفائها وشركائها «ما ستَقبله وما لن تَقبله»، وتضغط عليهم من أجل «الحدّ من اندفاعتهم الدبلوماسية»، وإنْ كانت تقرّ بأن «سوريا قضيّة معقّدة تفتقر إلى حلّ واضح».
ينقسم المعلّقون الأميركيون عموماً إلى معسكرَين: الذين يقترحون تطبيعاً تدريجيّاً مع سوريا على أساس الظروف؛ والذين لا يزالون يدعون إلى العزلة الكاملة لدمشق. يعتقد أنصار التطبيع أن النظام السوري «يعمل كعامل استقرار»، وأن الولايات المتحدة يمكنها الاستفادة من الحوافز الدبلوماسية والمساعدة في إعادة الإعمار وتخفيف العقوبات لدفع عدد من أهداف السياسة الأميركية قُدُماً. وهم يجادلون بأنه، على المدى القريب، يمكن واشنطن أن تشجّع على «وقف إطلاق النار في إدلب وإزالة الأسلحة الكيميائية»؛ وعلى المدى الطويل، يمكنها أن «تدعم المفاوضات من أجل العودة الآمنة للاجئين السوريين، ودعْم الإصلاح السياسي، واحتواء قوّة الخصوم، مثل روسيا وإيران»، وفق ما يورد مركز «كارتر» (كانون الثاني 2021).
في المقابل، تُعدّد روبنسون أخطاء هذه السياسة: «الأسد ليس وسيطاً موثوقاً؛ ستتمتّع روسيا وإيران دائماً بنفوذ أكبر في دمشق مقارنة بالولايات المتحدة، طالما استمرّ النظام السوري؛ لن تنفصل موسكو عن دمشق أبداً إذا كان ذلك يعني أنها ستفقد الوصول إلى موانئ طرطوس واللاذقية وقاعدة حميميم الجوية». لهذا، ترى الكاتبة أن هدف الولايات المتحدة يجب أن يقتصر حالياً على ضمان أن يعترف أقلّ عدد ممكن من الدول بالنظام السوري، مشدّدة على ضرورة أن تُحافظ أميركا على براغماتيتها إزاء ما يمكنها تحقيقه، ولكن أن تستمرّ في «عزْل الأسد ونظامه؛ وأن تشجّع الدول العربية التي تشعر بالحاجة إلى التطبيع على القيام بذلك على أدنى مستوى دبلوماسي ممكن (أو التواصل مع النظام من خلال طرف ثالث)، وتحذيرهم من إعادة سوريا إلى الجامعة العربية والمنظمات الإقليمية الأخرى؛ فضلاً عن تشجيع الحلفاء الأوروبيين الذين يميلون إلى التطبيع، على العمل من خلال أُطر خارجية قائمة (اتّخذت اليونان وقبرص خطوات للتطبيع، ولمّحت دول أخرى إلى انفتاحها على تبنّي سياسات جديدة)؛ واستخدام قانون قيصر بحكمة؛ والاستمرار في استهداف النظام وشبكته الاقتصادية، في موازاة تجنُّب فرْض عقوبات على الشركاء العرب الذين يتطلّعون إلى إعادة تفعيل التبادلات التجارية. وإذا قرّرت الإدارة فرْض عقوبات على مَن يقيمون علاقات اقتصادية مع النظام، ينبغي على بايدن النظر في إعفاءات للعراق والأردن ولبنان». لكن، على رغم كل ما تقدَّم، لا تمثّل سوريا أولويّة في سياسة إدارة بايدن الخارجية، بل مجرّد عبء متوارث يُفضَّل الحفاظ على حالته كما هي.