وبالتوازي مع محاولة الجولاني استثمار المشهد السياسي لتوسيع دائرة نفوذه، التي تشمل حتى الآن إدلب ومناطق في ريف حلب من بينها عفرين، أكدت مصادر ميدانية في إدلب، لـ«الأخبار»، أن توجيهات أصدرها أمنيون في «الهيئة» لدفع الشارع إلى الخروج في تظاهرات حاشدة رفضاً للتقارب بين دمشق وأنقرة، بما يكفل خلْق مشهد مناقض للحالة التي تعيشها مناطق سيطرة الفصائل الأخرى، وبالتالي تصعيد الضغوط على الأخيرة حتى تنخرط في مشروع الجولاني.
وتُعتبر تحرّكات رجل «القاعدة» السابق في سوريا «منطقية»، بالنظر إلى جدول الأعمال السوري - التركي، والذي وضع مسألة إدلب كأولوية، ما يعني حتميّة تزايُد الضغوط التركية على الجولاني من أجل إبعاده عن الطرق الرئيسة، وأبرزها طريق حلب - اللاذقية، لضمان تمرير البضائع التركية عبر سوريا. وتُضاف إلى ما تَقدّم، المخاطر التي تُواجه «تحرير الشام» بشكل عام، في ظلّ تمسّك دمشق بتصنيفها «تنظيماً إرهابياً»، تقع مسؤولية إنهائه على أنقرة، وفق تعهّدات تركية عديدة سابقة، سواء «اتفاقية سوتشي» المُوقَّعة عام 2019، أو ملحقاتها المُوقَّعة عام 2020، أو التعهّدات اللاحقة ضمن مسار «أستانا» الروسي الذي يضمّ إيران أيضاً.
يَعتبر الجولاني الانفتاح السوري - التركي «انحرافاً خطيراً يمسّ أهداف الثورة»
أمّا في الشرق السوري، فلا يبدو المشهد أقلّ اضطراباً، في ظلّ تركيز المباحثات السورية - التركية على الأكراد، ووضْع بند واضح لمكافحة «حزب العمال الكردستاني»، الذي تصنّف تركيا حزب «الاتحاد الديموقراطي»، قائد «قسد» (قوات سوريا الديموقراطية) و«الإدارة الذاتية»، امتداداً له. وعلى هذه الخلفية، سَجّل قياديون في «قسد» و«مسد» (مجلس سوريا الديموقراطي - الذراع السياسية لقسد) تصريحات عديدة تطالب واشنطن بعرقلة الانفتاح بين أنقرة ودمشق، على اعتبار أنه يهدّد بالدرجة الأولى الوجود الأميركي، بما يشكّله هذا الأخير من ستار يتحصّن وراءه مشروع «الذاتية». وفي وقت أعلنت فيه الولايات المتحدة، بالفعل، رفْضها خطوات التطبيع السوري - التركي، فقد نشّطت عملياتها الميدانية على الأرض لملاحقة مقاتلي تنظيم «داعش»، متعمّدة أن يتّخذ ذلك شكلاً استعراضياً يبرّر زيادة تحرّكاتها الميدانية في الرقة وفي منطقة التنف، ومتطلّعةً من ورائه إلى تحصين وجودها في سوريا، والحدّ من الآثار المتوقعة للانفتاح بين السوريين والأتراك، خصوصاً في ظلّ إعلان الأخيرين اتّباع تكتيكات جديدة في محاربة القوى الكردية، تستهدف في المقام الأوّل مصادر تمويلها (خطوط تهريب النفط ومراكز تكريره البدائية).
وبالإضافة إلى التحرّكات الميدانية، بدا لافتاً تمرير استثناءات جديدة من قانون العقوبات الأميركية (قيصر) لعمل عدد من المنظمات، بهدف توزيع الأعباء الاقتصادية وفتْح مجالات جديدة لتمرير المساعدات. ويأتي ذلك وسط إصرار موسكو على ربط ملفّ المعونات الإنسانية بزيادة تمويل مشاريع التعافي المبكر، بما من شأنه توفير البيئة المناسبة لتوسيع دائرة إعادة اللاجئين السوريين. وإذ ترفض واشنطن الاستجابة لهذا الربط، فهي لم تجد بدّاً من البحث عن منافذ أخرى لتمرير المساعدات، على رأسها منفذٌ عبر كردستان العراق، يُفترض أن يجَري منه نقْلها إلى مناطق نفوذ تركيا في الشمال السوري. والظاهر أن الولايات المتحدة تعوّل على هذا المعبر بالذات، لتمهيد الأرض لفتح قنوات التواصل بين مناطق «الإدارة الذاتية» ومناطق سيطرة الفصائل، خصوصاً مع تصاعد المزاج الرافض في هذه الأخيرة للتقارب بين أنقرة ودمشق. غير أن معوّقات عديدة تواجه التحرّك الأميركي في الاتّجاه المذكور، أبرزها الإجراءات الميدانية التركية، والتي تنذر بتكثيف العمل العسكري ضدّ «قسد»، ما يعني استمرار إشعال خطوط التماس.