هي المرة الأولى التي تنشر فيها جهة حكومية مؤشرات وبيانات إحصائية تتعلق بتأثيرات الحرب على جوانب مختلفة من حياة السوريين. صحيح أن هذه البيانات تتعلق بالسنوات الخمس الأولى من عمر الحرب، إلا أن أهميتها تكمن في تقديمها رؤية أخرى في مواجهة بيانات كثيرة طرحت خلال السنوات السابقة، بعضها صدر عن جهات بحثية محلية وخارجية، والبعض الآخر منها تبنّته منظمات أممية ودولية. ومن المتوقع أن تثير البيانات الرسمية المنشورة في إطار التقرير الوطني للتنمية المستدامة نقاشات بحثية وعلمية مهمة، سواء بالنسبة إلى موضوعية المؤشرات الإحصائية المتعلقة بسنوات ما قبل الحرب ودقتها، أو تلك التي ترصد السنوات الخمس الأقسى في مسيرة الحرب.
فقر الحرب
يستعرض التقرير مؤشرات تنفيذ الأهداف الإنمائية للألفية الثالثة البالغ عددها سبعة عشر هدفاً، وذلك خلال فترتين. الأولى قبل الحرب وتمثل العقد الأول من الألفية الجديدة، والثانية خلال سنوات الحرب الأولى، وتحديداً الفترة الممتدة منذ عام 2011 لغاية عام 2015. في الهدف الأول المتمثل بالقضاء على الفقر المدقع والجوع، يتناول التقرير واقع ثلاثة مؤشرات أساسية متعلقة بشكل مباشر بالفقر المدقع. أول تلك المؤشرات ما يتعلق بعدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من 1.25 دولار في اليوم، إذ يؤكد معدّو التقرير أن سوريا صُنّفت قبل الحرب بأنها ضمن مجموعة الدول التي حققت هدف الألفية المتمثل في القضاء على الفقر قبل حلول عام 2015، إلا أن الوضع تغير بشكل كبير مع بداية الحرب، حيث شهدت نسبة السكان الذين يقلّ دخلهم اليومي عن 1.25 دولار ارتفاعاً كبيراً، ووصلت أعلى نسبها في عام 2013 إلى 7% من إجمالي عدد السكان، لتبدأ مع نهاية العام نفسه بالتراجع، ولتبلغ في عام 2015 نحو 6.4%.
القضاء على الجوع بات مع تعمّق الحرب هدفاً عبثياً


كذلك كان حال توصيف المؤشر المتعلق بنسبة السكان الذين يعانون من فقر غذائي، فقبل الحرب وصل معدل الفقر المدقع (الغذائي) إلى حدوده الدنيا، بنحو 1.1% من إجمالي عدد السكان عام 2010، لترتفع هذه النسبة بشكل كبير خلال سنوات الحرب. ففي عام 2015، خلص مسح الأمن الغذائي الأسري إلى أن 33% من الأسر السورية تعاني من انعدام أمنها الغذائي، في حين لم تتجاوز نسبة الأسر الآمنة غذائياً أكثر من 16%.
أما في ما يتعلق بواقع الفقر بجميع أبعاده، فإن التقرير يكشف أن نسبة الفقراء والمعوزين جداً قبل الحرب بلغت نحو 8.5%، أي ما يعادل 1.8 مليون مواطن، منبهاً إلى أن سيناريو استمرار الجهود التنموية المبذولة في سنوات ما قبل الحرب كان سيؤدي إلى تحقيق هدف الألفية، المتمثل في تخفيض النسبة إلى 7.2%، كنسبة الفقراء من عدد السكان قبل عام 2015. لكن ما حدث أن الحرب أدت إلى حدوث ارتفاعات غير مسبوقة في معدلات الفقر وفق خطّيه الشديد والعام، لتصل إلى 43% عام 2013، ثم تراجعت قليلاً في عام 2015 إلى 41.5%. هذا في الوقت الذي زاد فيه أيضاً عدد الفقراء وفق خط الفقر الأعلى لتصل نسبتهم إلى نحو 68.9% في عام 2013، ونحو 63.6% في عام 2015، مقارنة بنحو 24.8% عام 2010.

نقص غذاء ووفيات
تعرّض الهدف الثاني من أهداف الألفية الثالثة لانتكاسة خطيرة بفعل الحرب، فالقضاء على الجوع وضمان حصول الجميع على ما يكفيهم من الغذاء المأمون والمغذي طوال العام باتا مع تعمّق الحرب هدفاً عبثياً، في ظلّ تعرض أكثر من نصف السوريين (51.6%) لخطر فقدان الأمن الغذائي عام 2015، وهذا ما رتّب أعباء كبيرة جداً على مؤسسات الدولة السورية ومنظمات المجتمع الأهلي والأمم المتحدة، التي حاولت توفير الدعم الغذائي للأسر الفقيرة والمتضررة من الحرب.
ومع ذلك، فإن معظم المؤشرات المرتبطة بشكل أو بآخر بالحالة الغذائية للأسر السورية سجلت ارتفاعات سلبية متباينة، فمثلاً مؤشر نقص الوزن لدى الأطفال، والذي شهد ارتفاعاً غير مبرر من 9.7% إلى 10.3% بين عامي 2005 و2010، وصل معدّله في عام 2015 إلى حدود 13.2% نتيجة تأثره بنقص الغذاء، ونقص الخدمات الصحية، وخروج عدد من مرافق النظام الصحي عن الخدمة. وهذا تسبب، إلى جانب ارتفاع معدلات الفقر، بارتفاع معدل وفيات الأطفال دون الخامسة، لتصل عام 2015 إلى نحو 32 بالألف، كما ارتفع معدل وفيات الأطفال الرضّع من 17.9 بالألف إلى 27 بالألف بين عامي 2010 و2015.
وفي السياق نفسه، يكشف التقرير عن زيادة عدد وفيات الأمهات خلال الولادة من نحو 58 حالة وفاة في عام 2011، إلى 67 حالة وفاة لكل مئة ألف ولادة حية في عام 2015، وذلك نتيجة ضعف خدمات الصحة الإنجابية التي سبّبها ضرر البنى التحتية والمنشآت الصحية، وانخفاض نسبة الحوامل اللاتي تلقّين رعاية صحية سابقة للولادة من 87% عام 2011 إلى 62% عام 2015.
وكان من الطبيعي، في ضوء تضرر منشآت القطاع الصحي، وتوقف معظمها عن العمل في المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية، عودة المخاوف الشعبية من انتشار الأوبئة والأمراض الخطيرة، إلا أن البيانات الرسمية التي تضمّنها التقرير تقلّل من تلك المخاوف. فمثلاً، لم تسجل المصادر الدولية بعد عام 2012 أي إصابة بمرض الملاريا، على رغم أن أول عامين من أعوام الحرب شهدا ارتفاعاً في عدد الحالات المبلّغ عنها، من نحو 23 حالة في عام 2010 إلى نحو 42 حالة في عام 2012.
المرض الخطير الآخر هو السلّ، وقد شهد انتشاره تذبذباً خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الحرب، والسبب في ذلك كما يرى معدّو التقرير يعود «إلى توفر الدواء ومنع المجموعات الإرهابية المسلحة المواطنين من الوصول إلى المرافق الصحية»، في حين أن معدلات الإصابة بمرض اللاشمانيا ارتفعت بنسبة 20.8% خلال الفترة المذكورة، نتيجة الوضع غير المستقر في بعض المناطق، وتحديداً في المناطق الشمالية والشرقية.
وعلى رغم تراجع عدد المتوفين بمرض السرطان، والذين لا تتجاوز نسبتهم 5% من إجمالي الوفيات، وهي نسبة شبه مستقرة منذ عام 2011، إلا أن معدلات الإصابة بالمرض في المقابل لا تزال ترتفع. هذا في وقت تحول فيه العقوبات الاقتصادية دون توفير مستلزمات العلاج للمصابين بشكل كامل، إضافة إلى عدم تلقي البلاد دعماً فعلياً وكافياً من المانحين ومنظمات الأمم المتحدة لدعم الخدمات الطبية لمرضى السرطان، الأمر الذي رتّب أعباء مادية كبيرة على المرضى.