بعينين يابستين يراقب أبو حاتم، إبنه البكر المنهمك في قطاف الزيتون. يؤلمه ألا يقول له كما يجدر بالآباء: «اترك من إيدك يا بييّ وروح ع جامعتك». حاتم، الطالب في السنة الثالثة هندسة زراعية، لن يذهب إلى الجامعة هذا العام.أبوه ابن الـ64 عاماً والأب لـ6 أولاد، لم يعد قادراً على إطعامهم وتوفير نفقات دراستهم في آن واحد. راتبه التقاعدي الذي لا يتجاوز 25 ألف ليرة (أقل من 50 دولارا أميركيا)، يكفي بالكاد لسدّ رمق عائلته الكبيرة. «لولا الأرض كنت متت من الجوع أنا وأولادي» يقول، بينما يلف بين أصابعه سيجارة تبغ عربية، التي تشتهر قريته «وادي القلع» بزراعتها.
يشرح في حديثه إلى «الأخبار» كيف أعادت الحرب ذكريات الخمسينيات، حين كانت العائلات الريفية في ظل الفقر السائد، تختار واحداً من أبنائها للالتحاق بالجامعة في العاصمة، فيما يتفرّغ بقية الأبناء لزراعة الأرض. «اليوم رجعتنا الحرب أكتر من 60 سنة لورا، وما عاد إلنا قدرة نعلّم أولادنا بعد ما صارت أجرة الطريق للجامعة بدها راتب موظف». يشرح محاولاته في التحايل على الفقر كي لا يضيع مستقبل أبنائه: «اتفقت مع ولادي نمشي على مبدأ سنة جامعة إلك وسنة لخيّك، حتى يدرسوا هني التنين وما ينحرم حدا الدراسة».
هكذا تخلّى حاتم عن سنة دراسية ليتمكن أخوه الأصغر من الالتحاق بالسنة الأولى في كلية الآداب. «صارت أجرة الطريق للجامعة روحة رجعة 500 ليرة، يعني 10 ألف ليرة شهرياً، غير مصاريف الكتب والدفاتر وتصوير المحاضرات، هادا إذا ما جعت واحتجت آكل سندويشة أو إشرب كاسة شاي»، يسرد حاتم. يتابع «حاولت آخد غرفة بالسكن الجامعي باللاذقية، ودبّر شغل بشي مطعم متل باقي رفاقي لطالع مصروفي، لكن ما قدرت لأن الأولوية بالسكن هي لطلاب المحافظات التانية، وأهلي ما قادرين يصرفوا على شبين بالجامعة وبالأخير قررنا أخي يدرس هي السنة، لأن إذا ما التحق بالجامعة رح ينطلب ع الجيش». «بكرا» كلمة حذفها حاتم من قاموس مفرداته، فهو يؤمن بأن الحرب لم تترك غداً للفقراء «نحن المعترين ما عاد قادرين نحلم ببكره، ورح نضل عم ندفع ثمن الحرب سواء استمرت أو خلصت، حلم تأسيس عمل وبيت وعيلة صار أكبر بكتير من واقعنا» يعبّر.
وخلافاً لحاتم، الذي اضطره ضيق الحال للتخلف عن الدراسة، فإن رامي 26 عاماً، المقيم في مدينة اللاذقية، ليس لديه مشكلة مع المواصلات أو تكاليف الدراسة. تخلّى عن دراسته في كلية العلوم، رغم بلوغه السنة الرابعة، واختار طوعاً الالتحاق بالجيش. هو لا يحاول الظهور بمظهر البطل، رغم تفضيله خدمة جيش بلاده على متابعة دراسته، بل يرد السبب، كما غالبية الشبان السوريين، بأنه لم يعد يرى في الأفق إلا الحرب. «كلنا كان عنا مخططات لحياتنا، نتخرج ونشق طريقنا بالحياة ونتزوج ونعمل عيلة، لكن بلادنا اليوم على كف عفريت، والحرب ما رح تخلص لا بسنتين ولا تلاتة، وتلت أرباع الشباب وصلوا لقناعة أنو شهادة الجامعة مضيعة للوقت، لأن بالأخير مصيرهم يروحوا ع الجيش، والله العالم ايمت يتسرحوا». يجيب ضاحكاً عن سؤال: «شو مشان بكرا؟»، معتبراً «بكرا سيرة حلوة بتنحكى قدام كاميرات التلفزيون بس». يستشهد بمئات الشباب في مطلع العمر، ممن قضت الحرب وتداعياتها على خياراتهم في الحياة: «نحنا جيل بالع الموس ع الحدين، بعرف شباب بعمر 19 سنة، ما كانوا يكملوا دراسة والتحقوا بالجيش ليهربوا من الحياة يلي عايشينها، الواحد منا عم يوصل لمطرح ميئوس منو، مافي مصاري، مافي بكرا، ما في أمل».
وبينما يتنكر رامي لفكرة الأمل بالغد، فإن فريد، ابن دير الزور، الحاصل على «البورد» (الهيئة السورية للاختصاصات الطبية) بالتشخيص المخبري، ما زال يلاحق حلمه بمستقبل وحياة كريمة. «كان قدامي وقت قصير وبخلص تأجيلي من الجيش... صرت دور على طريقة حتى كمل حياتي وما يضيع مستقبلي وما لقيت قدامي إلا السفر». هكذا سافر فريد إلى تركيا بانتظار الحصول على فيزا للدراسة في ألمانيا «بعد 4 شهور إجاني الرد من السفارة الألمانية بالرفض، ما يأست وطورت لغتي الألمانية، ووصلت لمستوى b2 وجبت قبول ماجستير جامعي وما كان في سبب ليرفضوني، وضليت انتظر حتى اجا الرد بعد 5 شهور و20 يوم (مرفوض)، وما ضل قدامي خيار، وبنفس يوم الرفض طلعت بمحاولة هجرة عن طريق البحر».
رحلة فريد كلّفته 1200 دولار، متجاهلاً المشاهد التي حفرت في ذاكرته لسوريين قضوا غرقاً في رحلات مماثلة «كنت واصل لدرجة من الإحباط ما عاد تفرق معي الحياة، كنا 50 واحد بالبَلم بيناتنا 15 طفل، ولما دخلنا المياه الإقليمية انكسر البلم، وبلشت المي تتسرب وصارت الناس تصيح وتبكي... إنتِ ما تعرفي حقيقة الناس إلا وقت ركبة البلم. كانت المي واصلة للركب، لما قال الشوفير إنه رح يرجع الشط ليصلح البلم، وبعد ما وصلنا انتظرنا بغابة حتى يجيبولنا البلم التاني، ضلينا ناطرين 12 ساعة، وبعدين إجت الشرطة التركية، وكان وقتها المهربين انهزموا والمصاري راحت».
رحلة فريد المأساوية كانت سبباً في تراجع عن اللحاق بحلمه بحراً، لكنّه لاحقاً عاود المحاولة براً في رحلة استغرقت 10 أيام، وكلّفت 2000 يورو، وانتهت ببلوغه البلد الذي يرى فيه حلمه. «وصلت ألمانيا أخيراً، وبالمخيم كنت الوحيد يلي يحكي ألماني، بالإضافة للخبرة بالمجال الطبي، لهيك صرت اترجم لكل مين يحتاج مساعدة أو علاج طبي، وبلشت بموضوع تعديل شهادتي». يتابع قصته «مع إنو كان صعب لاقي صيدلية تقبل اتدرب فيها، قبلتني أخيراً صيدلية، وعم اتدرب وانتظر موعد امتحان اللغة التخصصية باللغة الألمانية بمستوى الـC1».