دمشق | ما كان قاطنو حي ركن الدين وسط العاصمة دمشق ليتصوروا أن بداية الربيع ستكون على هذه الحال. كان يوم الأحد الأخير من آذار كارثياً، وتاريخياً. ربع ساعة من المطر المتواصل تكفّلت بتشكيل شلال غزير جرى من جبل قاسيون إلى "جادات وان لي 3"، جارفاً في طريقه الحجر والبشر! حتى أنّه تحكم في مسار السيارات بما لا يشتهي سائقوها. سكّان الحي، وأغلبُهم من الأكراد، فوجئوا بالزائر الذي اقتحم بيوتهم عنوة.
مناطق "واي سفيرة، الكيكية، الشيخ خالد" كان لها النصيب الأكبر، فالسيول اجتاحت معظم محالها وشققها الأرضيّة.
"الأخبار" زارت الحي المنكوب بعد أيام من الحادثة. بمرارة يقول أحد سكان الحي: "ربع ساعة قلبت كل شيء، فجأة تحول أبناء الحارة إلى ضحايا أو منقذين. كنت أحد الذين ساهموا في إسعاف المصابين، حاولنا إنقاذ ما أمكن إنقاذه. أخليت جميع البيوت الأرضية من الناس، وبعدها بدأنا برفع الأنقاض، حاولنا فتح الطرق، إزالة السيارات التي راكمها السيل مع الحجارة والطين".
أنس أومري أحد سكان وادي سفيرة، أكثر المناطق تضرراً، يروي لـ"الأخبار" قائلاً: "السيل جرف كل شيء، المياه بما حملته دخلت منازلنا. هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها السيول بهذه الطريقة. سوء شبكات الصرف الصحي وقدمها، وكثرة الأبنية العشوائية، لم تستوعب غزارة الأمطار، وكانت النتيجة كارثيّة". يضيف أومري مستعيداً بعض تفاصيل المأساة: "أكثر ما آلمني سيدة كانت تحاول أن تساير السيل وتسير معه علها تنجو لكنه جرفها. لا أنا تمكنت من أن أنقذ حياتها ولا القدر أسعفها. بعد ما شاهدته، لم أعد أكترث بالأضرار المادية التي لحقت بمنزلي، فكل شيء يمكن تعويضه".
بدوره، أبو سعيد صاحب محل للمفروشات والأدوات الكهربائية يقول لـ"الأخبار": "خسائري كبيرة، إن في الأثاث أو الأدوات الكهربائية، السيل جرف معظم محتويات محلي، وما بقي أصابه التلف". ويضيف ساخراً: "ربّما كنتُ صاحب أوّل محل للمفروشات المتحركة في البلاد، فقد سارت مفروشاتي إلى ساحة شمدين. (جرفها السيل طبعا)".
المشهد بعين إيمان، الطالبة الجامعية بدا مختلفاً. فمن شرفة منزلها وثّقت سيل الموت. تقول: "رغم رعب المشهد، صوت المياه المندفع، الصراخ العالي، حالة الرعب، كل ذلك لم يمنعني من الوقوف على شرفة منزلي وتصوير المقطع الذي جرى تداوله في ما بعد بين الناس".
يتحدث السكّان هنا عن "7 ضحايا، من بينهم خمسة أطفال"، ولدى المطالبة بالأسماء يذكرون اسماً واحداً فقط هو مفيد الحوش. الرجل الأربعيني كان يقود سيارته عائداً إلى بيته، لكن الموت كان أسرع. جرفه السيل ولم يتمكن من فتح باب السيارة، فمات غرقاً في داخلها.
أما أبو أحمد فكان حظّه جيداً. الرجل كان يقود سيارته الصغيرة حين وجد نفسه تحت رحمة السيل. يقول: "فجأة لم يعد باستطاعتي التحكم بالسيارة، جرفنا السيل. للحظاتٍ أحسست بأنني سأموت لا محالة، ولولا مساعدة الناس لكان مصيري أنا ومن معي الموت المؤكد".
مشفى "ابن النفيس" القريب استقبل العدد الأكبر من المصابين. أحد الأطباء المقيمين (طلب عدم ذكر اسمه) يقول لـ"الأخبار": "إن أغلب الإصابات التي وصلت المشفى غروب ذالك اليوم، كانت الاختناق، الكسور والرضوض، إضافة إلى حالات اضطرابات قلبية نتيجة الهلع".
جزء كبير من الركام الذي خلّفه السيل ما زال موجوداً حتى اليوم. شوارع الحي الدمشقي ما عادت هي نفسها. معظمها تحوّل إلى مساحات طينية، وكأنها كانت ساحة حرب أعادتها إلى أزمنة ما قبل البنية التحتية والاسفلت.
محافظة دمشق لم تحمّل نفسها الكثير من الأعباء، واقتصر دورها على تنظيف الحي بمساعدة سكان المنطقة. وبحسب مصدر في المحافظة، هذه ليست المرة الأول التي يواجه الحي الواقع على سفح قاسيون الشمالي المشكلة ذاتها. عشوائية الأبنية المتواضعة على منزلقات مائلة وحادة، مصفوفة وكأنها صممت على درج، فاقمت الأمر. في العام 2009 وُضعت خطة لمواجهة السيول، قائمة على إزالة بعض الأبنية وإقامة خط لسير مياه الأمطار الآتية من الجبل، لكن العمل بالخطة متوقف حالياً. وحتى شبكات الصرف باتت قديمة ولا تفي بالغرض في الحالات الطبيعية فكيف بالحالات الطارئة.
هكذا، كان ربع ساعة من الزمن كفيلاً بتغيير ملامح الحي الدمشقي. وإلى اليوم يحاول أهالي الحي إعادته إلى ما كان عليه، وإحياء ما يمكن إحياؤه. صحيح أن فصل الشتاء قد انتهى، لكنّ أمطار الربيع أحياناً تكون أشد غزارة، ولا أحد يعلم متى يزورهم سيل الموت مجدداً.