المكان الذي يأتي منه جمهور الوحدات الأردني، عموماً، لا يختلف كثيراً عن المكان الذي يأتي منه جمهور النجمة اللبناني. جميعهم تقريباً يأتون من الموقع الطبقي نفسه. نتحدث عن السائد ولا يعني ذلك أن المدرجات هي مساحة محايدة طبقياً. فهناك «المنصة الرئيسية» وهناك أزمة الأمن الطويلة، وهناك الذين يستطيعون الدخول والذين لا يستطيعون. لكن ما يستدعي الالتفات، تحديداً، بعد مباراة النجمة البيروتي والوحدات الأردني، هو الملعب، كمسرح متجدّد لإعادة تعريف العلاقة بين السياسة والمجتمع.بدأت المباراة بالشتائم. الشتائم مِلح المباريات، والمباريات بدونها في حسابات جماهيرها تبعث على الملل، أو ليست مباريات على الإطلاق. يجب أن نتّفق منذ البداية، أن الشتائم جزء من اللعبة، وأن ما يسمى «الروح الرياضية»، لا ينسحب على المدرجات، أثناء سير الأحداث. وهذا الاعتراف ليس سوى محاولة أولى لردم هوة كبيرة بين المشجعين وبين دفتر الشروط الأخلاقي المفروض على هؤلاء من خارج اللعبة. المدرجات لها قوانينها المستقلة عما يحدث في الخارج، وما يُعتبر مستهجَناً خارج حدود الملعب، يعتبره المشجعون عادياً. المستطيل الذي أمامهم، هو مكان أرحب، أو على الأقل أكثر عدالة من المستطيل الذي في الخارج. قواعد اللعبة واضحة هنا. لا يحتاجون إلى تحديد موقعهم في الصراع، لأن كل شيء يبدو واضحاً أمامهم. ما يحتاجون إلى تعريفه، بالضبط، هو العلاقة بين وجودهم في هذا المكان، وفي هذا الوقت، وبين الخارج. إنه مكان الاعتراض على الخارج بصوت مرتفع، في محيط خاص بهم، أو للتأكيد على تصوّرات خاصة للمشهد الخارجي، في مكان خاص بهم. وقد لا يكون الاعتراض اعتراضاً، بقدر ما يكون محاولة لإعادة صياغة خطاب الخارج، بأدوات المهمّشين عندما يسيطرون على المشهد. وهذا مدخل رئيس لقراءة الأحداث في مباراة الفريق اللبناني الذي يتبعه من الضواحي جيش من المهمّشين، وبين فريق المخيّمات الفلسطينية في الأردن، وجمهوره صاحب أصول عريقة في التشجيع.

جماهير بلا تاريخ؟
ثمة سؤال بديهي. لماذا استقبل جمهور النجمة ضيوفه بالشتائم عند ترداد أسمائهم فور بداية المباراة؟علماً أنه ذهب إلى الفندق، ليلة المباراة، وأعلن بالمفرقعات والصراخ، أن الأمر «يتجاوز» الرياضة. يمكن الإجابة من ثلاث زوايا رئيسة. الزاوية الأولى، وهي الزاوية المباشرة، من داخل الملعب، أي من داخل هذا العنف، وبالطريقة التي تتعامل فيها الجماهير عادةً مع الحدث. من هذه الزاوية، كل شيء يبقى مرتبطاً بالمباراة وباللعبة. من هذه الزاوية، لا يعود الفريق الضيف مستهدَفاً بسبب هويّته. وتجنّباً لوضع الجمهور اللبناني في القفص، يجب التوضيح أن العنف الجماهيري يبدأ بالصراخ والأهازيج، وهو قابل للتطور بدون حسابات. المدرجات لا تصلح لهواة التأمّل. وفي الملعب، شَعر الجمهور أنه قادر على إطلاق الشتائم، لأنه في موقع القوّة، حيث أن المباراة تجري على أرضه. وهذا يعني أن المحيط «أليف». ذلك لا يلغي أن الضيف تعرّض لاستلاب معلن، وأن الجِهة التي منعت مشجعيه من حضور المباراة، رغم تحجّجها بأسباب تنظيمية وتقنية، فعلت الأمر على نحو مريع. وبدلاً من أن يُستقبل الفريق الضيف استقبالاً خاصاً، أو أن يُدعى إلى مشاهدة المباراة إلى جانب الجماهير اللبنانية، ظهرت ذرائع الأمن والتنظيم لمنعه من الحضور والمشاركة. المفارقة الأولى، أن يلتقي الجمهور مع الأمن. المفارقة الثانية، أن ذاكرة الفلسطينيين قد تتّسع للمدينة الرياضية، حيث جرت المباراة، أكثر مما تتسع لها ذاكرة اللبنانيين. فهي تقع على مقربة من مخيَّمي صبرا وشاتيلا الشهيرين، كما دمّرها الاجتياح الإسرائيلي في 1982، أثناء مطاردة قادة المقاومة الفلسطينية في بيروت. المفارقة أيضاً، أن تاريخ النجمة البيروتي، مثل تاريخ الأنصار والفرق البيروتية التاريخية، يحفظ مكاناً واسعاً للاعب الفلسطيني. وعندما تُحَدِّث نجماوياً عتيقاً فسيتذكر جمال الخطيب بلا تردّد.
افترض المشجعون أن الخصوم يفهمون لغتهم العنيفة، وتالياً، سيفهمون هذا «الاستقبال» العنيف

وهذا يقود إلى الزاوية الثانية، أي العلاقة غير المباشرة مع الخصم. بوضوح تام، افترض المشجعون أن الخصوم يفهمون لغتهم العنيفة، وتالياً، سيفهمون هذا «الاستقبال» العنيف، على أمل أن يترجِم لاعبو فريقهم (النجمة) هذا الدعم على أرض الملعب، ويقدّموا عرضاً يليق بالحماسة الكبيرة. الزاوية الثالثة للنظر إلى الحادثة، تستدعي الابتعاد قليلاً عن المدرجات، ولكن ليس إلى خارج حدود الملعب. نتحدث عن العلاقة المباشرة بالخصم، وعن المكان الذي يأتي منه المشجعون، طبقيّاً وسياسياً. بالملاحظة والمعاينة، لما تبقى مِن مدرجات كرة القدم في لبنان، يتّضح للمتابع أن السياسة حاضرة دائماً في الحيّز العام. ما يجري على المدرجات هو «إعادة تدوير» للخطاب. وهذا الالتباس يعيد النظر في الزاويتين الأساسيتين. لكن المدرجات اللبنانية تعطّلت، في الأساس، لأسباب سياسية. إذاً، يجب إعادة صياغة السؤال عن العلاقة بين السياسة خارج المدرجات، وحدود حضورها لحظة الاعتراض عليها. وربما يكون من المفيد المرور لِماماً على حالات «جماهيرية» في أماكن أخرى، ولكنها مثيرة للانتباه، في محاولة لتفسير سلوك المشجع اللبناني «السياسي»، خاصةً وأن السلوك الذي نتحدث عنه، وفي جانب رئيس منه، كان ضدّ اللاجئين حتى عندما يكون هؤلاء لاجئين في مكان آخر. رغم أن هذا يبدو مألوفاً في لبنان، حيث أن التحريض لا يقتصر على «الجماهير»، بل يتجاوزها إلى الوزراء والأحزاب، وما يُتوقع من الجماهير، أن ترفض - في ملعبها - الخطاب المهيمن، أو على الأقل تعيد صياغته بأدواتها. للوهلة الأولى، يبدو أن السبب الرئيس لهجران الملاعب، هو تحولها إلى مادة للاستهلاك. لكن الحقيقة هي أن ثمة من لا يرغب بسماع صوت الجماهير وهو يرتفع، من دون أن يكون ذلك مخطّطاً له.

الألتراس سبق الثورة
نحن أمام مقاعد زرقاء جميلة وفارغة. بالنسبة إلى مباراة كرة القدم، المشهد صار كارثياً. فهذه كرة قدم وليست غولف، أي إن الجمهور جزء أساسي من اللعبة، رياضياً وسوسيولوجياً. وإذا استعرنا الصورة الفانتازية التي تُظهرها القنوات الناقلة، سيبدو المعلب مِن فوق أشبه بعلبة خاوية. هذه هي أحوال مصر، بعد منع الجماهير من مشاهدة المباريات في القاهرة. وليس هناك حاجة للتذكير بدور الألتراس في الثورة المصرية، كجهاز منظّم، وجد نفسه يشارك في صناعة حدث سياسي تاريخي. وليس هناك حاجة للتذكير، بأن الألتراس المصري لم ينشأ كحركة سياسية في الأساس، إن كان ذلك في حالة «ألتراس أهلاوي»، أو في حالة «وايت نايتس» للزمالك. لقد كان الأمر في الأصل بسيطاً: مِن محاولة الصعود على مسرح. القيام بعرض. ثم اشتدّ العرض في يناير. على عكس الحالة اللبنانية، يشير الكثير من الباحثين، إلى أن الذين طوّروا فكرة الألتراس في مصر، كانوا ينتمون إلى ما يسمّى، في الخطاب الليبرالي الدارج، بمتعلِّمي الطبقة الوسطى. في الواقع، أثتبت الثورة المصرية، ما أثبته الألتراس على المدرجات، مرتين. في المرة الأولى، أثبتت الأحداث أن الطبقة الوسطى هي عبارة عن سلوك، أكثر من كونها طبقة حقيقية يقوم الانتماء إليها على وعي، أو تجمعها مصالح واضحة ومشتركة. أثبتت المدرجات أن الهرمّية التي في الخارج وهم، بمعنى أن الطبقة الوسطى قابلة للانهيار بسرعة رهيبة. في الوقت ذاته، تثبت المدرجات أن البناء الهرمي داخل الطبقة الوسطى عرضة للتلاعب وتبادل المواقع. وكان هذا إيجابياً في الثورة، بحيث وجدت مجموعات الألتراس المنظمة نفسها أكثر حرية من التنظيمات الحزبية الرثّة. لم يدم ذلك طويلاً. في المرة الثانية، أثبتت مجزرة بور سعيد، أن العلاقة مع الأمن ومع الجهاز الأيديولوجي هي علاقة مستحيلة. وأيضاً، ليس هناك أي داع للتذكير، بأنه في مذبحة بور سعيد، أطفئت الأنوار وأغلقت الأبواب على مشجّعي الأهلي. المجزرة المنظمة لا تكون من فعل الجماهير، بل من فعل الأمن، مهما حدثت محاولات لتصويرها كما لو أنها «مجرّد شغب». الأمن بحاجة إلى عنف مضاعف، يرتفع فوق أي عنف، لكي يتمكّن من الهيمنة، ومن محو الاستقطاب الأفقي على المدرجات. بعد منع الجماهير في مصر، فقد المصريون فرصة الاعتراض والتنظيم، و«ساد الأمن». ويختلف هذا كثيراً عن الحالة اللبنانية، نظراً إلى طبيعة الجماهير وعلاقتها بالسلطة، إذ تلعب العوامل الأنتروبولوجية دوراً أساسياً هنا، في تشكيل البنية الطائفية، التي تشكّل الفرق الرياضية بدورها، ويصير الاستقطاب عمودياً؛ وعلى هذا الأساس: العهد لحزب الله، الأنصار لتيار المستقبل، الحكمة برعاية المطرانية المارونية، وعلى هذا المنوال.

مسرح لنزاعات الطوائف
رغم الفارق في الاستقطاب بين التجربتين، المصرية الشاسعة والكبيرة، واللبنانية المكبّلة بالمتغيّر الطائفي، ثمة شبه. ما تتشاركه الجماهير ليس خِفة في الوعي، بقدر ما هو رغبة بالتمرّد ضد «السيستم». الأجهزة الأمنية هي أجهزة أمنية، مثل الميديا ومثل الدولة. أجهزة أيديولوجية تدير مصالح طبقية، بالمعنى الألتوسيري للكلمة. وربما، لهذا السبب، وصف غرامشي كرة القدم بأنها نضال تحت الشمس العارية. لكنه نضال ملتبس في بعض الحالات. في أماكن أخرى، كبولندا مثلاً، هناك مصادر واضحة يستقي منها المشجعون اعتراضاتهم. وهي اعتراضات على الاستابلشمنت ولكنها من داخله. ورغم أن معظم المشجعين ليسوا متدينين، إلا أنهم يلتزمون بالأصول الكاثوليكية ويستخرجون الرموز منها. مهووسون بالقومية البولندية. ليسوا حالة اعتراضية على النظام بقدر ما أنهم محاولة للانقلاب على موقع السلطة فيه لتسعين دقيقة. وفي هذا، قد نجد شبهاً بينهم وبين المشجعين اللبنانيين، إذا استثنينا التنظيم الجدّي للألتراس البولندي، وجموحه الأيديولوجي إلى الفاشية. وربما، ما يجعل الشَبَه حقيقياً بالفعل، هو الخروج من حقبتين زمنيتين مشابهتين. شبه طريف ومحزن في آن. في عام 2000، وجد اللبنانيون أنفسهم يشاهدون كأس آسيا في بيروت، وفي 2004 وجد البولنديون أنفسهم يشاهدون كأس الأمم الأوروبية في بولندا (بالاشتراك مع أوكرنيا). كانت محاولة جيدة لإقناعهم بأن كرة القدم هي مادة ترفيهية، وطبعاً استهلاكية، وعليهم أن يتعاملوا معها كما يملي عليهم الباراديغم الليبرالي. في بولندا، ترتَّب على هذا الخطاب انقلاب ترك أثراً في غاية السوء، بحيث ازدادت نقمة المشجعين على كل ما يعتبرونه من منتجات الخطاب الليبرالي، كالنسوية والهوموفوبيا. في لبنان، الأمور أسهل. لم تتحوّل اللعبة إلى استهلاك، لأنها غير مربحة، والنقاش مؤجّل عن نسبة المنسحبين من المدرجات، مقابل الذاهبين إليها. وهذه نتيجة، وليست سبباً، إذ استحسن الذين «يديرون» اللعبة أن تبقى على حالها: مسرحاً لصراعات الطوائف.