حوّلت الحرب الدائرة في سوريا كثيراً من الأطفال إلى «أرباب أسر»، سيكبرون بعيداً عن الحملات والشعارات الرنانة، وقد رسمت الحرب خطوط مستقبلهم. الكثير منهم لن يجد من يسأله: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ ولن يجيبوا الإجابة الاعتيادية «بدي صير دكتور/ة». وإذا كان شيوع عمالة الأطفال أحد المفرزات «الطبيعية» للحروب، فإنّ دخولها إلى كنف بعض الجهات الحكوميّة قد يكون «امتيازاً» سوريّاً. اكتُشفت أخيراً جريمة تشغيل، ضحاياها أطفال تحوّلوا إلى «عمال تنظيف»، في نطاق سلطة بلديّة مدينة التل.يشير أحدث التقارير الصادرة عن منظمة «يونيسيف» إلى أن أربعة من بين كل خمسة سوريين يعيشون تحت خط الفقر، «ما يدفع الأطفال إلى اتخاذ تدابير قصوى للبقاء على قيد الحياة، مثل التوجه إلى عمالة الأطفال، وزواج الطفلات المبكر، والتجنيد للقتال لدى الفصائل المسلحة». تقول تقارير المنظمة الأممية إن «أكثر من مليوني طفل ــ أي أكثر من ثلث الأطفال السوريين ــ هم خارج المدرسة، ويواجه مليون وثلاثمئة ألف طفل خطر التسرب من التعليم». على الأرجح، لا يعرف العاملون في «يونيسيف» إبراهيم، الطفل الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره بعد. لكنّ حارات وشوارع مدينة التل (ريف دمشق) عرفته جيّداً، بعد أن احترف العمل ــ إلى جانب شقيقته غفران التي تصغره بأكثر من سنة ــ في تنظيف الشوارع، بصفة «عامل نظافة»، لفائدة «مجلس مدينة التل»!

سيف الفقر
«لم أجد حلاً سوى أن يعمل ولداي، مقابل معاش يومي قدره ألف ليرة (دولار واحد) لكل منهما، كي نستطيع أن نعيش»، يقول والد الطفلين لـ«الأخبار»، بعد أن يشرح ظروفه الصحيّة، وخضوعه لعمليات جراحية عديدة، بسبب أمراض قلبيّة يعاني منها. في شهر أيلول الماضي، بدأ إبراهيم، وشقيقته غفران، العمل لمصلحة «بلدية التل». دأب الطفلان على قطع مسافة تتجاوز 20 كيلومتراً يوميّاً، من قرية خربة الورد إلى مدينة التل، للانضمام إلى تجمّع يضم أطفالاً وبالغين آخرين، بإشراف شخص يعرف بلقب «أبو جمعة»، وهو صلة الوصل بين «العمّال» ومتعهد أعمال التنظيف. يؤكد أبو إبراهيم أن ابنته غفران «ترغب كثيراً في العودة إلى المدرسة ومتابعة تعليمها، وهي مجتهدة، لكن ظروفنا المعيشية حالت دون ذلك». لدى الطفل إبراهيم الرغبة في التعلّم ذاتها، لكنه اضطر إلى أن يلعب دور «رجل البيت»، والعمل لتأمين حاجات الأسرة.
فضلاً عن تواضع عقوبة «تشغيل الأطفال» يمنح القانون هوامش لتخفيفها



الصدفة تكشف الجريمة
لم يكن إبراهيم وغفران الطفلين الوحيدين اللذين عملا مع متعهد النظافة في التل. هناك أربعة من بين «زملائهم» في العمل أطفال أيضاً (تراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً). تكفّلت الصدفة باكتشاف الناشط المدني، عبد الكريم البنّي، للجريمة. يروي البني لـ«الأخبار» كيف فوجئ قبل أيام قليلة بـ«أطفال يجرون عربات تنظيف ويحملون مكانس، إلى جانب أشخاص بالغين. كانت درجة الحرارة وقتها تلامس الصفر». ويضيف «عندما سألت الأطفال عن سبب وجودهم في ساعة مبكرة جداً، ومعهم تلك المعدات، أخبرتني غفران (11 سنة) أنها تعمل منذ أشهر مع أخيها في التنظيف مع البلدية، وأن مشرف البلدية يعرف بوجودهما». يقول البني «أعطيت الأطفال ملابس تقيهم البرد، من مقر جمعية نور للإغاثة، ثم توجهت إلى البلدية، ومن بعدها إلى النيابة العامة، لتقديم شكوى ضد من يقوم بتشغيل الأطفال. وقمت بنشر ما حدث على صفحتي الشخصية على فايسبوك». ويضيف «في اليوم الثاني ذهبت إلى الموقع نفسه بحثاً عن الأطفال، فلم أجد أياً منهم، وأنكر العمال البالغون وجود أطفال معهم». باح أحد العمال للبني بأنّ «المتعهّد صرف الأطفال من العمل، وطلب من الجميع التكتّم على القصة». بعد جهد استمر لأيام، تمكّن الناشط من الوصول إلى غفران وشقيقها، وعائلتهما. يقول البني «تعهّدنا بإعادة الطفلين إلى المدرسة، ودفع بدل عملهما لوالدهما المريض، الذي يعيل خمسة أطفال، ووالدتهم، وشقيقه المريض بالسرطان». قام الناشط، بصفته ممثلاً لـ«جمعية نور للإغاثة»، بالادّعاء على المتعهد، والبلدية، بتهمة تشغيل أطفال قاصرين، «الدعوى الآن في عهدة السلطات المختصة»، يقول.

«عقوبات» مضحكة
في العام 2002، صدر المرسوم الجمهوري الرقم 379، وانضمت سوريا بموجبه إلى البروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل. يقول المحامي أحمد بلبل إن «البروتوكول يحوي موادّ تمنع تشغيل الأطفال القاصرين». يشرح بلبل أن القانون منع تشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة منعاً باتّاً، وسمح بتشغيل الأطفال بين عمري 15 و18 عاماً، ضمن شروط وضوابط محدّدة. ويضيف: «في حال تشغيل الأطفال في أعمال غير مباحة، فإن العقوبات تندرج تحت المادة 756 من قانون العقوبات السوري». تنص المادة على أن «يعاقب بالحبس التكديري، وبالغرامة حتى مئة ليرة سورية، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من يخالف الأنظمة أو القرارات التي تصدرها السلطات الإدارية أو البلدية وفقاً للقوانين»، وتم لاحقاً تعديل مبلغ الغرامة، ليراوح بين 500 و2000 ليرة سورية، (الحد الأقصى دولاران). وفضلاً عن تواضع العقوبة المنصوص عليها، يمنح القانون هوامش لتخفيف وطأتها على مرتكب جريمة التشغيل. يشرح بلبل أن «موضوع الحبس يرجع إلى القاضي الناظر في الضبط بعد عرضه عليه، كما أن التوقيف والعرض موجوداً في المخفر أثناء التحقيقات على النيابة، يرجع إلى تقدير رئيس النيابة العامة».