مقدمة لا بدّ منهاالصحافيّون هم أعداء الشعب. حقّاً هم كذلك. هذا لا يشمل طبعاً الصحافيين الوطنيين، الملتزمين بكلّ ما تنصّ عليه «الكاتالوغات» الحكوميّة، المستميتين في شرح أبعاد المؤامرات، بمربّعاتها ودوائرها وشبه منحرفاتها، البعيدين كلّ البعد عن جرائم توهين الأمم، وإضعاف الشعور القومي، وبث الشائعات المغرضة (أصلاً هؤلاء فوق جميع أنواع الشبهات). ثمة صنف آخر من الصحافيين نقصدهم هنا، ولا شكّ في أنهم يعرفون أنفسهم جيداً لأنّ «اللي فيه شوكة بتنخزو». ولأننا نعيش في «زمن الوعي»، فإن قدرات أولئك المجرمين على إخفاء نياتهم باتت معدومة. جميع أوراقهم مكشوفة بفضل العيون الساهرة، والهمم الساحرة، وهم ملعونون في الدنيا والآخرة.

متن
في أواخر القرن التّاسع عشر، أنجز الكاتب المسرحي النرويجي الكبير هنريك إبسن مسرحيّة «عدوّ الشّعب». تدور أحداث المسرحيّة في قرية ساحلية نرويجية، تحوي منتجعات صحيّة، يقصدها السيّاح للاستشفاء بمياهها. كان كل شيء يسير على «ما يُرام»، القرية تشهد ازدهاراً واستقراراً، المنظومة متماسكة، والشعب سعيد. فجأة يكتشف الدكتور توماس ستوكمان أنّ مياه المنتجعات هي في الواقع مياه مجارير عفنة، مملوءة بمختلف أنواع القاذورات والفضلات الصناعيّة المُمرضة. يبدأ ستوكمان في إثارة القضية، لكنّ «رئيس البلديّة» وشركاءه ومحازبيه يتصدّون «بشجاعة» لتلك «المؤامرة». يقرر ستوكمان المضيّ في المواجهة، فيكتب مقالاً ويسعى إلى نشره في الصحيفة المحليّة، ليضع الرأي العام أمام الحقيقة. (يا للوقاحة!). من «حسن حظ» القرية، أنّ أولي الأمر فيها كانوا يتحلّون بالتماسك والتضامن فيما بينهم، وسارعوا فوراً إلى «توعية الشعب» بالمخاطر المترتبة على تصديق ستوكمان، والعمل بمقترحه القاضي بإغلاق المنتجعات، وإصلاح ما يجب إصلاحه. هي «مؤامرة» هدّامة كما هو واضح لكل «وطني» أصيل! إيقاف المنتجعات سيسبب الخسائر، و«يضرب السمعة»، ويعكّر صفو القرية. باختصار، تصرّف أبناء القرية بما تمليه «المصلحة الوطنيّة»، وكما هو متوقّع من «شعب واعٍ» فقد تكاتف الجميع ووقفوا في وجه ذلك المُغرض، فشهدوا ضدّه، وهتفوا بلقبه الذي استحقّه بجدارة «عدوّ الشّعب». هكذا انتصرت القرية على المؤامرة، وياله من انتصار رائع!
في العقود الأخيرة، لم يعد تقديم مسرحيّة إبسن تلك على خشبات المسارح مغرياً للمخرجين، ويقال إنّ أحد أهم الأسباب هو العدد الكبير من الممثلين الذي يتطلّبه تقديمها على الخشبة. هل من حاجة للإشارة إلى أنّ مسرحيّة «عدو الشعب» قُدّمت، (وما زالت، وستظلّ) عشرات المرّات في منطقتنا على خشبات بحجم بلدان ودول؟ هل شاهدنا أحدث نُسخها قبل فترة وجيزة؟

هامش
في أحد حوارات «عدو الشعب»، تؤكد بترا (ابنة ستوكمان، والمعلّمة في إحدى مدارس القرية) أنّ «هناك خوفاً كبيراً من قول الحقيقة في كل مكان... في المدرسة علينا أن نقف أمام الطلاب ونخبرهم الأكاذيب... علينا تعليمهم كل الأشياء التي نحن أنفسنا لا نؤمن بصحّتها».
خلاصة: بترا بتفهم.