ليس الموت «خاتمة الحكاية» دائماً في الحرب السوريّة. ثمّة قصص لعب الموت فيها دور «الفاصلة»، بين حكايتين مأسويتين. كثر هم من لم يعلموا عن مصير أحبتهم وذويهم، سوى ما أخبرتهم به أوراق صادرة عن إحدى الجهات المختصة، تفيد بأن أحبتهم «ماتوا، أو استشهدوا». في بعض القصص دُفنت عائلات بأكملها، وفي قصص أخرى كان الموت خبراً بلا دليلٍ ماديّ يؤكده، أو جثمانٍ «يقطع الشك باليقين». ثمّة أيضاً عائلات تسلمت جثثاً تعرضت لتشوّه، أو أضرار كبيرة، ما جعل الجزم بهويّة تلك الجثث أمراً صعباً، وقد ثبت في بعض الحالات أن الجثة المتسلمة لم تكن لصاحب الهوية المعلنة وفاته، وأحياناً «بعد فوات الأوان»!
«جثمان آخر في قبر أخي»!
يستعرض مازن، من أبناء دمشق، صور أخيه الشهيد بحزن شديد. «كان أخي قد تطوع مع الدفاع الوطني»، يقول الرجل لـ«الأخبار»، ويضيف «رغم مرور أكثر من سنة على تطوّعه، قام أحد الحواجز على أطراف دمشق بسوقه الى الاحتياط!». التحق الأخ بالخدمة الاحتياطيّة بالفعل، وتمّ فرزه إلى محافظة دير الزور. بعد ستة أشهر اتصل بشقيقه ليخبره بأنه أصيب، وأنّ الضابط المسؤول عنه لم يمنحه إجازة. يقول مازن «بعد أيام قليلة كلّمني صديقه، وقال إنّ أخي استشهد». وصل الجثمان إلى «مشفى تشرين العسكري» بعد خمسة أيام، وذهب مازن لتسلّمه. «الجثة التي أعطوني إياها لم تكن لأخي. صحيحٌ أن الجثة كانت منتفخة، لكنني أعرف أخي من علامات كثيرة: كان قد فقد جزءاً من سبابة يده اليمنى أثناء عمله في صنع الحلويات، ولديه ندبة من جرّاء عمل جراحي في رئته اليمنى». رفض الرجل أوّل الأمر تسلّم الجثمان، وبحث بين الجثث الأخرى أملاً في العثور على الجثمان الصحيح. «لم أجد أخي. قمت بدفن الجثة التي أعطوني إياها، ولم أخبر إخوتي ووالدتي بشكوكي، لكنني واصلت السعي وراء مصير جثمان أخي». بعد قرابة خمسة أشهر اهتدى مازن إلى عائلة تقيم في حلب، تحمل اسم عائلته نفسه، وقد استشهد أحد أبنائها بالتزامن مع استشهاد الشقيق المفقود جثمانه. «استغربوا لما سألتهم إذا كانوا متأكدين إنو الجثة اللي دفنوها هي جثة ابنهم فعلاً». شرح مازن للعائلة الأخرى الموقف، ووضعهم في صورة شكوكه، مرت أيام وتلقّى مازن اتصالاً يخبره بأن العائلة الحلبيّة قررت إجراء تحليل «DNA». بعد شهرين ظهرت النتيجة، «الشخص الذي دفنته على أنه أخي لم يكن أخي، بل كان ابن العائلة الحلبية، وجثة أخي دُفنت في حلب». يقول مازن «طلبت والدتي نقل رفاة أخي الى مقابرنا، وإرسال جثمان الشاب إلى ذويه، لكنني رفضت. الأمر مربك جداً لنا ولهم، والظروف الأمنية والعسكرية وقتذاك لم تكن تسمح بالقيام بمثل هذه الإجراءات على أصولها». يختتم الرجل قصته «أزور قبر الشاب الذي دفنته على أنه أخي في الأعياد والمناسبات، وقد وضعت على شاهدة القبر اسمه الحقيقي. لن أنسى أن أخي دفن في مكان ثانٍ، ولو لم أنتبه لم أكن لأعرف من هو الشخص الذي دفنته».

جثامين محروقة... ورؤوس مقطوعة
ثمة قصص مشابهة أخرى، لكنّ بعض العائلات تفضّل عدم الخوض فيها. وفيما تنتظر عائلاتٌ كثيرة جثامين أبنائها، دُفنت جثامين كثيرة وهي مجهولة الهويّة. ويواجه عمل «الهيئة العامة للطب الشرعي» مشكلات عديدة، تجعل الجزم بهويات الجثامين المدفونة في «المقابر الجماعيّة» المكتشفة مهمّة صعبة. يشرح «المدير العام للهيئة» الدكتور زاهر حجو لـ«الأخبار» بعضاً من الإجراءات المتّبعة. «حين يتم إبلاغ الهيئة باكتشاف مقبرة، يتوجه فريقٌ إليها، ويقوم بالتقاط صور الجثامين، ليتم التعرّف عليها لاحقاً بالاستعانة بالصور، أو بما ترتديه من ثياب، أو بالوثائق الشخصية إن وجدت». يقول حجو «في بعض المقابر اكتشفنا أنّ الإرهابيين قاموا بحرق الجثث، ما يجعل التعرّف عليها أمراً مستحيلاً، فحتى تحليل الحمض النووي لا يجدي في مثل هذه الحالات». ويضيف «تكرر هذا الأمر في حلب وريف دمشق ودير الزور. وفي حالات أخرى كنا نكتشف جثثاً بلا رؤوس، في مناطق عمد فيها الإرهابيون إلى قطع الرؤوس وإلقائها بعيداً عن الأجساد». يوضح حجو أن عمل «الطبابة الشرعية» لم يتوقف على امتداد الحرب.
«لم أجد أخي. قمت بدفن الجثة التي أعطوني إياها ولم أخبر إخوتي ووالدتي»

يقول «في شهر آب من عام 2012، استحدثنا مقبرة في إحدى المناطق، ودفنّا الجثث بعد إعطاء القبور أرقاماً، وربطها بصور تلك الجثث لتسهيل التعرّف على الجثث في ما بعد، فالظروف وقتها لم تكن تسمح بغير هذا الإجراء». ويضيف «حرصنا على التقاط صور للجثث والثياب، وأخذ عينات من DNA. وبالفعل بعد عودة الأهالي الى تلك المنطقة، استطاع عدد كبير منهم التعرف إلى الجثث المدفونة في تلك المقبرة». يؤكد حجو لـ«الأخبار» أنه «لا يتم دفن أي جثة، سواء كانت لعسكري أم مدني من دون أخذ عينات يتم حفظها في المخابر السورية»، ويشير في الوقت نفسه إلى وجود معلومات لدى «الهيئة» عن «عشرات الآلاف من الجثث المدفونة في مقابر جماعية أو فردية في مناطق خارجة حالياً عن سيطرة الحكومة، لا سيّما في إدلب».

اختصاص «غير مرغوب»!
في شهر تشرين الثاني من عام 2014 صدر «القانون رقم 17» القاضي باستحداث «الهيئة العامة للطب الشرعي». حتى اليوم، تعاني «الهيئة» في شكل أساسي من «قلة في الإقبال على تخصص الطب الشرعي»، وفقاً لمديرها العام. ويقول حجو «على عكس باقي الاختصاصات، فالطبيب الشرعي لا يمكنه أن يفتتح عيادة خاصة تساعده على العيش بكرامة». ويتبع لـ«الهيئة» اليوم 56 طبيباً شرعيّاً، و20 طبيباً مختصّاً بطب الأسنان الشرعي. لكن هذا العدد «لا يزال قليلاً، قياساً بحجم العمل المطلوب. فمثلاً في حلب يوجد خمسة أطباء شرعيين فقط، يغطون مدينة حلب وريفها». يؤكد حجو أنّ «عمل الطب الشرعي لا يقتصر فقط على الكشف على المقابر الجماعية، فنحن أطباء ولم نتوقف عن عملنا المدني، كما لعبنا دوراً في كشف عدد كبير من الجرائم، خاصة تلك التي يحاول مرتكبوها إظهارها على أنها حوادث ناتجة عن الحرب». ويضيف «نعمل على زيادة عدد الأطباء من هذا الاختصاص، وزيادة خبرة من يعمل فيه. أوفدنا عدداً من الأطباء إلى الصومال وإيطاليا، لحضور تدريبات بالمشاركة مع لجنة الصليب الأحمر على آليات الكشف عن المقابر وانتشال الجثث، وغيرها من التدريبات». كذلك، تحاول «الهيئة العامة» الإضاءة على أهمية اختصاص «طب الأسنان الشرعي»، خاصة في الظروف الراهنة التي تمرّ بها البلاد.

«أريد جثة ابني»
تتّشح أم محمد بالسواد منذ سنة ونصف، حداداً على ابنها الذي استشهد على مقربة من حلب. تقول السيدة لـ«الأخبار» إنها تلقّت اتصالاً هاتفياً في أواخر عام 2016، يُخطرها باستشهاد ابنها الأوسط، سومر (22 عاماً)، أثناء إحدى المعارك. «لم يكمل ابني دراسته الجامعية بسبب نزوحنا والظروف التي كنا نعيشها، لذلك التحق بالخدمة الإلزامية». وتضيف «كان الضابط يعدني دائماً بأنه سيعيد لي (جثمان) ابني بعد أن تتحرر حلب، لكنني حتى اليوم لم أتسلّم شيئاً». تقول السيدة بحرقة «حصلت على وثيقة استشهاد، وتعويض مادي، لكنني أريد ابني، أريد دفن جثمانه بقرب والده وأبناء أعمامه»، وتُردف «من حقي أن أحصل ولو على عظمة منه، كي أدفنه بالشكل اللائق، وأزوره، وأشكو له همي».