للمرة الأولى يظهر الارتباك على «نائب الصدفة» الذي جاء ترشيحه على لائحة المستقبل جائزة ترضية لعضو مكتبها السياسي رجل الأعمال غسان المرعبي. في انتخابات 2009 النيابية، ضرب تيار المستقبل أخماسه بأسداسه، فارتأى استبعاد ابن وادي خالد المرشح محمد سليمان الذي يملك شركات تجارية في سوريا، خشية «ازدواجية الولاء» بين سوريا وتيار المستقبل، وذلك خشية تكرار تجربة النائب السابق عن المقعد العلوي مصطفى حسين الذي انقلب على المستقبل رغم فوزه بأصوات الأخير.
بصفته «نائب الصدفة»، أو بعقلية المقاول، استسهل النائب معين المرعبي تغيير قواعد الاشتباك، علّه يستطيع تغيير رب العمل، أو بالأحرى علّه يتعامل مع الأصيل بدل الوكيل، فراح ينسج أفلام الذود عن السيادة، مرتعه تضاريس وادي خالد ومهارة مهربي الأسلحة وسخاء «ديمقراطيات» النفط الخليجية، والولاة من شتى أجهزة الاستخبارات الغربية التي اجتاحها الحنين فجأة لحماية «أهل السنّة» من «غزوة الفرس».
سرعة صعود نجم النائب المتمرد أوقعته في شر أعماله. ففيما ترك له تيار المستقبل حرية اللعب في مناطق الاحتياط، في عكار، وفيما تعددت القوى المشغّلة هناك بين قطر والسعودية ووكالة التنمية الأميركية، إذا بالنائب الفذّ يقفز إلى المنطقة العزيزة على قلب الحريري الأب والابن والمتفرعات، إلى السرايا التي لم يقتنع آل الحريري بعبارة «لو دامت لغيرك لما آلت إليك» التي حفروها على باب «قشلاق بيروت»، فشاء المرعبي، في دقائق معدودة وبعشرة أنفار (نصفهم من «الجيش السوري الحرّ»)، أن يسجل له التاريخ ما لم يستطعه مئات الآلاف على مدى سنوات.
ما لم يدُر في خلد النائب الغاضب أن الإعلام البيروتي لن يترك له مجال إعداده فيلمه وإخراجه، كما يفعل عادة في عكار والشمال. هناك، في «الملحقات بالوطن»، يُعدّ المرعبي أرضية الحدث. يتدبّر أمر جمع السلاح ودفع الأموال، وتجهيز المجموعات، وإرسالها لإطلاق النار على الحدود السورية، وما إلى ذلك مما لا يراه إلا المرعبي نفسه، وللإعلام فقط حق تصوير تداعيات الرد السوري. ومقابل ذلك، للنائب المرعبي دور البطولة في مسرحية الذود عن حياض الوطن وسيادته، عبر استدعاء قوات الأمم المتحدة، عبر مذهبة الموقف العكاري من مجريات الأحداث في سوريا، وفي ذلك تكفير عن الإجحاف المزمن الذي ألحقه تيار المستقبل بعكار على مدى سنوات حكمه.
أمام السرايا الحكومية، لم يترك الإعلام للمرعبي المجال واسعاً للهروب من ورطته. ظنّ نفسه للحظات أنه في كواليس وادي خالد. زهاء عشرة شبان ظل يفترضهم جمهوراً غاضباً، والقوى الأمنية المكلفة بحماية السرايا برأيه هم الذين اعتدوا على «جمهوره الغاضب»، إلى أن استفاق من دواره، واستدرك قائلاً إن العناصر الأمنية هم «أهلنا ومن محبّي الرئيس الحريري».
بيروت غير وادي خالد وعكار. لبيروت أهل اختصاص في منتجة الأفلام بحلوها وقبيحها. وللقرى العكارية بساطة أهلها والعوز الذي أوقعتها فيه سياسات ولاة تيار المستقبل الذي نجح في تحويلها إلى صندوق لتلقّي تبرعات «أهل الخير»، خصوصاً بعدما جاءه على طبق من فضة مزراب المساعدات لإغاثة النازحين السوريين.
لكن يبدو أن أهالي عكار لم ينتظروا الحلقة الأخيرة من مسلسل المرعبي الهزيل. شيء ما جعل عكار تكشف الخيط الفاصل بين الحزن واحترام قيمة الموت من ناحية، والاستثمار في الدم دفعاً لإيقاع المزيد منه من جهة أخرى. فلم تلبِّ عكار بممثليها ووجهائها إلا واجب العزاء اللائق أسوة بباقي المناطق. أما الأغلبية العكارية التي رأت قطع الطرقات بالسواتر الترابية من جانب غوغاء المستغضبين من أنصار المرعبي ونظيره النائب خالد ضاهر، وما بينهما حفنة من المجموعات المسلحة تدقق في هويات العكاريين، فلم تكن راضية بما يحدث. عكار التي حاول محتكرو الشهادة تقطيع أوصالها، ناشدت الجيش والقوى الأمنية حماية حرية حركتها على بعد أيام من عيد الأضحى. فتحت محالها التجارية، انصرف أبناؤها إلى ما يتوافر من عمل، وفي ذهن معظمهم صور مذبحة حلبا التي سبّبها تحريض النائب ضاهر الذي سعى إلى مذبحة أخرى، فكان الحادث الخطير الذي أودى بحياة الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه حسين المرعبي على حاجز الكويخات، فأخرج الجيش اللبناني من عكار ولا تزال التداعيات جارية، وما بينهما حادثة عيات التي أودت بشيخ من الطائفة العلوية، وكادت تتحول إلى مجزرة نجا منها النائبان السابقان وجيه البعريني وكريم الراسي وعشرات من فاعليات عكار.
جريء جداً «نائب الصدفة»، ومعه النائب خالد ضاهر الذي برز في عهد «الوصاية السورية» ابناً لنظامها، قبل أن ينقلب عليها، والذي ترشح إلى الانتخابات رغماً عن الجماعة الإسلامية التي ترعرع فيها، فإذا به اليوم يغازل تيار المستقبل ليكون مرشحاً مفروضاً عليه. جرأة لم تسمح لغيرهما بتناول سمعة عناصر الجيش وضباطه في أكثر معاقله منعة. الجيش الذي لم يكن تطوع أبناء عكار فيه خياراً أو ولاءً بقدر ما كان مجالاً يلوذ به العكاريون هرباً من فقرهم أو من إفقارهم، فبماذا يعد النائبان الفذان العكاريين عوض تمردهم على الجيش سوى الدم والخراب وقطع الطرقات على أبناء عكار قبل غيرهم.
لا شيء مفاجئاً في سلوك الثنائي مرعبي وضاهر. الأول لم يتعوّد حسابات السياسة، والثاني تمرس في انقلاباته المتعاقبة، فجاء التحالف مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع من باب تحصيل الحاصل، بل ربما أدى إلى دمج الخبرات في التحريض الطائفي، وفي تظلل الدين لتحقيق الأهداف. في طقوس تدريبات القوات اللبنانية كان جعجع قد هيّأ مطراناً ليبارك ضباطه في سياق احتفالات التخرّج، تمهيداً لإضفاء نوع من القداسة على مجازرهم المرتقبة. لم يكلف النائب ضاهر نفسه عناء تلك المهمة، فجاءه مفتي عكار بالوكالة الشيخ أسامة الرفاعي جاهزاً لأداء المهمة. فيوم استعصى على ضاهر إعادة الهدوء إلى أهل الشيخ عبد الواحد عندما جاءته الأوامر بلفلفة الموضوع، بعد أن أمعن في تحريضهم، استعان بالمفتي لأداء المهمة. ولأنه شاء تحويل استشهاد اللواء وسام الحسن ومرافقه المؤهل أحمد صهيوني من نكبة وطنية إلى أزمة مذهبية، وأطلق المقاومة دفاعاً عن «أهل السنّة»، جاءه المفتي ليعلن أن «من كان خائفاً على دمه فليجلس في بيته ويخلي الساحات لمن يريد العزة والكرامة».