قرر طلال سلمان، فجأة، إعلان موت «السفير»… قرر وحده، مصير واحدة من العلامات اللبنانية الفارقة في العالم العربي. قرر وحده، من دون استئذان أحد. كأنه لم يجد من يحادثه في الأمر. وجد نفسه وحيداً، إلا من تعب الدنيا. يمسك رأسه بيديه، ينظر إلى العدم قبالته. لا صراخ ينفع، ولا بكاء الوداع. يرمي نرده للمرّة الأخيرة، وهو يعلن الخسارة.
طلال سلمان، كبير الصحافيين العرب في لبنان. طارد ظله باحثاً عن جواب لسؤال العصر: ماذا نريد؟ لكنه تعثّر، فجاءنا بجواب عن سؤاله الفردي: ماذا أريد؟ لم يقل لنا، كيف فعل ذلك. لكنه أبلغنا الجواب، على شكل راية سوداء، حفرها كرمح، في قلب نسره البرتقالي، معلناً حكمه المبرم: لم يعد هناك صوت للذين لا صوت لهم!
ليسمح لنا سلمان بأن نصرخ رفضاً لإعلان موت «السفير». موت أقرب إلى الإعدام

هذا القرار فعل فردي. سيبقى فردياً، ولو قام به الجميع، واحد تلوَ الآخر. إنّه فعل العجز عن التغيير الشامل المطلوب. هو فعل فردي، سيكون له أثره على الجميع، لكنّه يبقى فردياً… علينا أن نفهم، أن حياة الصحافة، وأسباب وجودها، لا تُحسم في بلاط حاكم قاهر، أو في قبو وسيط خسيس. الصحافة موجودة بوجود الحياة. لا بدائل منها الآن، ولا بعد مئة عام. وكل الوسائط البديلة، لن تكفي لملء المشهد، إذا لم تكن هناك الصحافة أوّلاً، فكرةً ومضموناً ومحتوى.
لا يكتمل المشهد في حياتنا العامة، من دون لوحة الحائط التي صار اسمها جريدة. فكيف وجيل المرتزقة الجدد عند أمراء النفط والغاز، صار لديهم ما يعتقدونه «منابر إعلامية»، وها هم يمنحون أنفسهم رتبة الواعظ الذي يعطي الدروس.
كلّ ما فينا يقول لنا إن الجريدة حاجة وحقيقة. وكل ما حولنا يقول إنه زمانها، الآن وهنا، كما كان سابقاً. وكل آمالنا، وطموحاتنا، ورغباتنا، تقول إنه لا مجال للاستغناء عن هذه المعشوقة الأبدية.
للفعل القاسي الذي اختاره طلال سلمان حكايته الخاصة. لكنه احتجاج لا يلغي النقاش، ولا يسدل الستارة أبداً. إنّه ليس نتيجةً حتميةً لمسار طويل. ولأنه كذلك، وقبل فوات الأوان، وحيث للشروق موعده اليومي، لا بد من الصراخ. صراخ الاحتجاج لا صراخ النحيب. صراخ من يرفض النتيجة غير العادلة. وهو صراخ لا يترك مجالاً لحشرجة هنا، أو أنين هناك. هو صراخ السائل الذي لا يُنهر، وصراخ يجعل كل سامعي الصوت، والصامتين بلا حراك، شركاء في جريمة لها ضحاياها الكثر، ولها أيتامها أيضاً.
لا وقت للاستماع إلى الرواية. وكل التبريرات التي نسمعها الآن، وسنسمعها غداً وفي أي وقت، لا تقول كل الحكاية. وكل شرح لن يفيد في إخفاء الفعل الجرمي. هو الفعل الذي نتشارك جميعاً في ارتكابه بصمْتنا، بوقوفنا على التل نراقب النسر يهوي بلا حول وبلا قوة.
الصحافة لم تمت. ولا يجب أن تموت «السفير» في عيد مولدها. العيد الذي يصادف عمر النضوج، وعمر العطاء الكبير، وعمر الإغواء والركض نحو الأفضل…
في لحظة كهذه، ليسمح لنا طلال سلمان بأن نصرخ إلى جانبه، بل حتى في وجهه، رفضاً لإعلان موت «السفير». موت هو أقرب إلى عملية إعدام!