في اللحظات الحرجة التي مرّت على صفقة مخطوفي أعزاز، عقد اجتماع ضم رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان، ورئيس جهاز أمن الدولة القطري غانم الكبيسي، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم. تلقى المعنيون جواباً سلبياً سورياً على طلب إطلاق متزامن وفوري لسراح عدد من المعتقلات في السجون السورية كجزء من الصفقة. اللواء علي المملوك، الذي يتولّى التحدث باسم الجانب السوري، أبلغ اللواء إبراهيم أن سوريا ليست طرفاً في الصفقة، لكنه أكد احترام دمشق طلب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله بالمساعدة على إنجاحها. وأوضح المملوك أن القرار واضح وحاسم بأن دمشق لن تقبل الربط الفوري.

القطريون يطلبون مخرجاً. أجريت اتصالات بالقيادات السياسية للحاضرين، ثم بعث أمير قطر تميم بن حمد برسالة تقول إنه يسير في الصفقة وفق الشروط السورية، لكنه يريد ضمانة طرف ثالث. طلب أن تأتي هذه الضمانة، ولو شفهياً، من السيد نصرالله. عندها اتصل أحد مساعدي الأمير القطري بقناة اتصال له مع «حزب الله»، عارضاً الأمر، وليحصل بعد دقائق على جواب واضح: نعم، السيد حسن يضمن!
بعد ذلك، راح القطريون، كما الأتراك، يعملون على إنجاز الخطوات لأجل إقفال الملف نهائياً. تركيا ليست معنيّة بأكثر من أن تتبلّغ «الرضى» عن الخطوة، علماً بأن جهاز الاستخبارات فيها سعى إلى الحصول على المزيد، فجلس ضباط مع المخطوفين اللبنانيين قبل تحريرهم، ثم عاود الاتصال بهم لاحقاً، عارضاً إقامة «حفل مصالحة» يقضي بجمع المخطوفين مع الطيارين التركيين ومواطن تركي آخر ممّن اختطفوا في بيروت وأطلقوا، ضمن حفل يقام في بيروت.
البعض في بيروت راقته الفكرة، لكن أحد الخبثاء اقترح على المهتمين أن يجري الحفل في قاعة أدهم خنجر في دارة الرئيس نبيه بري في المصيلح. فهم كثيرون، ولاحقاً الأتراك، الرسالة، قبل أن يتدخل صاحب عقل ويلغي الاستعراض من أساسه.
لكن قطر تريد أكثر من الشكر المباشر أو غير المباشر. هي لا تسعى فقط إلى «غسل يديها» من هذا العار الذي تورّطت فيه تحت شعار «دعم الثورة السورية»، بل ترغب في رسم دور يقوم على مبدأ «الحضور الدائم».
لاحقاً، فسّر مسؤول قطري رفيع الأمر على الشكل الآتي: ثمّة قرار كبير، دولي وإقليمي، قضى بإبعادنا عن تفاصيل الملف السياسي والعسكري للمعارضة السورية، وإن السعودية تتولّى إدارة الملف وهي غير راغبة أصلاً في أن يكون لقطر أي دور، حتى وإن كان ثانوياً. لكن قطر كانت أجرت تعديلات، بدءاً من رأس الهرم، من أجل إعادة مدّ الجسور مع الآخرين، ضمن سلسلة أهداف أخرى للتغيير، وهي تشعر منذ انقلاب الأمير السابق على والده أن في السعودية مَن لا يريد بقاء الامارة مستقلّة عن النفوذ السعودي.
المسؤول القطري ذكّر بأن العائلة المالكة في الدوحة ظلّت في حالة استنفار قصوى عند موت الملك السعودي السابق فهد. كان الجميع يخشى تغييرات تعزّز نفوذ وليّ العهد الراحل سلطان. كان في قطر مَن يقول إنّ سلطان لو قدّر له لاجتاح قطر وضمّها إلى السعودية خلال ساعات.
القلق القطري ازداد بعد إحكام السعودية السيطرة التدريجية على الملف السوري، برضى وتعاون أميركي ـــ بريطاني ـــ فرنسي ومشاركة الإمارات والكويت والاردن. لكن ماذا بيد قطر؟
بعد انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر، شعرت قطر بأن دورها لا يتجاوز مجرد لاعب احتياط، حتى إنه ليس مطلوباً منه الحضور في الملعب وقت اللعب. ومنذ ذلك الحين، سعت قطر ولا تزال لدور رئيس، وهي لا تأبه للحدود والصلاحية. كل ما يهمّ حكام الإمارة استعادة دور الوسيط إذا أمكن، ودور المتفاعل حيث يمكن، ودور اللاعب إذا توافرت الظروف. ولذلك، قررت قطر اعتماد استراتيجية جديدة تقول بأن خسارة مصر، وخسارة النفوذ الأكبر في أوساط المعارضة السورية، وتراجع النفوذ في تونس وليبيا، وعودة المشاكل مع السعودية، كل ذلك يتطلّب تموضعاً جديداً عنوانه المرحلي: تصفير المشاكل!
تحت هذا العنوان، سارع القطريون إلى وضع مهمة استثمار دورهم في صفقة أعزاز. في مرحلة لاحقة، طلبوا من الأمم المتحدة، عبر ممثلها الأخضر الإبراهيمي، أن تكون قطر حاضرة في الاتصالات الهادفة إلى عقد مؤتمر جنيف ـــ 2، وطلبوا من مساعده (الدبلوماسي المغربي المحترف والمثابر على جهوده لدعم الشعب السوري) السفير مختار لاماني أن تكون الدوحة في قلب المساعي الآيلة إلى مبادلة مخطوفين داخل سوريا، وإلى حجز مقعد لها في أي شأن يتعلق بمصير المطرانين المختطفين شمال سوريا.
وبعدما عُمّمت مناخات التقدم الكبير في الاتصالات بين إيران والدول الغربية، بعثت قطر برسائل إلى طهران تبدي الاستعداد والرغبة لفتح صفحة جديدة، وهي تفضّل عدم ربط الامر بمجريات الأزمة السورية. ثم فعلت الأمر نفسه مع العراق، ثم توافقت مع تركيا وحركة حماس على بناء منظومة علاقات وتحالفات في المنطقة، عنوانها مواجهة النفوذ السعودي القائم على إطاحة الإخوان المسلمين في كل المنطقة.
وسط هذه الأجواء، سارعت قطر إلى رفع مستوى التواصل مع القنوات اللبنانية. استقبل أميرها اللواء إبراهيم، طالباً إليه «إكمال معروفه» ونقل رسائل «مودّة» إلى قيادة «حزب الله» وإلى دمشق أيضاً. ثم أرسلت قطر مَن يتابع مع اللواء إبراهيم ملف المعتقلات السوريات. وقد رتّب إبراهيم صيغة، بالتعاون مع دمشق، أتاحت معالجة ملف المعتقلات بطريقة مختلفة.
وافقت دمشق على وضع لائحة باللواتي سيفرج عنهن، لكنها أصرّت على إطلاق سراحهن داخل الأراضي السورية. وإزاء الإلحاح على أن المعتقلات ربما يرغبن في مغادرة سوريا، تم الاتفاق على ترتيب لقاء، يبقى طيّ الكتمان، ولا تحضر فيه وسائل إعلام ولا معلنون.
الإجراءات قضت بأن تنقل السلطات السورية نحو أربعين معتقلة مفرج عنهن إلى مكان قريب من نقطة الحدود اللبنانية ـــ السورية في المصنع. وهناك، كان وفد قطري ينتظر، حيث يتولّى التحادث مع المعتقلات السوريات اللواتي رفضن مغادرة الأراضي السورية، وأعلَنّ رغبتهن في البقاء في سوريا، وهو ما سجّله القطريون في حضور ممثلين عن الأمن العام اللبناني... لكن حصل شيء مخالف للاتفاق: لجأ القطريون إلى تصوير بعض اللقاءات!
في غضون ذلك، كان اللواء إبراهيم قد نقل رغبة قطر في التواصل والانفتاح إلى قيادة «حزب الله». أبدت قيادة الحزب مرونة، وأُبلغت قناة الاتصال التقليدية فتح خطوط الهواتف المغلقة، وهذا ما أتاح محادثات هاتفية بين رجلين يبقيان في الظل، واحد في الدوحة، وآخر في حارة حريك. سلامات وتحيات وأمل بلقاء قريب!
مضت أسابيع قليلة، كان الرئيس السوري بشار الأسد يرفض كسر القطيعة مع قطر. لديه من الأسباب ما يكفي لعدم مصافحة أي مسؤول قطري حتى يوم الدين. وعلى مكتبه سجلات من آلاف الصفحات عن الدور القطري المباشر في التآمر عليه، وفي دعم حرب تدمير سوريا. لكن الأسد المتفهّم للاعتبارات المتعلقة بالخارطة السياسية الجديدة في المنطقة، وجد الحل المناسب. مرة جديدة اعتذر عن عدم التواصل المباشر، لكنه جدّد ثقته بما يقرّره «رفيق السلاح»، أي السيد نصرالله.
لم يمر وقت طويل حتى رنّ الهاتف مجدداً في حارة حريك. الوسيط القطري على الخط، معرباً عن رغبته في المجيء إلى بيروت، ليس للسياحة، بل هو يأمل بلقاء مع «حزب الله». عاد إليه محدّثه بعد وقت مرحّباً به. وصل الرجل على عجل إلى فندق فينيسيا قائلاً إنه يحمل رسالة من الأمير تميم إلى السيد نصرالله، ويرغب في نقلها شخصياً إلى الأمين العام لـ«حزب الله».
حصل اللقاء، وخلاله قيل الكثير، وعن كل شيء. وخرج الموفد القطري «مرتاحاً» إلى أنه يمكنه بدء العمل على مسار يؤدي إلى إعادة العلاقات مع «حزب الله» إلى ما كانت عليه سابقاً، ثم عقد اجتماعاً إضافياً مع نظيره في «حزب الله»، راغباً في المزيد وعارضاً المزيد من الرغبات في علاقات أفضل.
بعد وصول تميم إلى منصب الأمير، وإبعاد حمد بن جاسم عن الحكم، ثم إقصاء كل أنصاره عن المواقع الإدارية والوزارية والحكومية. درجت على لسان المقرّبين من الأمير الشاب عبارة: «سبب بلاوينا هو حمد بن جاسم». وعند الشرح، تجري الاستعانة بعشرات الروايات والحوادث التي ترمي بمسؤولية الأخطاء القطرية على عاتق رئيس الوزراء السابق. صحيح أن الرجل لم يكن مقصّراً في بيع كل شيء للأميركي والغربي، لكن هذه الحيلة لا تنطلي إلا على مَن يريد استخدامها لاستئناف العلاقة.
سمع القطريون كلاماً واضحاً ومباشراً عن ضرورة القيام بخطوات عملية لأجل تظهير التغيير في الموقف من المحور الذي يضم «حزب الله» وسوريا وإيران، كذلك سمعوا مَن يذكّرهم بأن الحضور القوي لقطر في المحافل الدولية برز خلال فترة العلاقات الجيدة مع قوى ودول محور المقاومة.
لكن قطر أصرّت على إبلاغ «حزب الله» رغبتها في أن يلعب الحزب دوراً مباشراً في كسر الجليد مع دمشق، ومع الرئيس الأسد مباشرة. سمع القطريون جواباً هادئاً: أصلاً، لديكم عناوين وهواتف المعنيين في سوريا، وإذا كنتم جادّين في ما تقولون، أقدموا على خطوة أولى... واطرقوا الأبواب بأيديكم!
لم تتأخر المشاورات الداخلية في الديوان الأميري حول هذه النقطة، ثم أوعز إلى مسؤول قطري، كان يتواصل مع الرئاسة السورية، بأن يقوم بالخطوة الأولى. ساعات ويرنّ الهاتف في مكتب مسؤول سوري رفيع المستوى. والمفاجأة، أتاحت تواصلاً وديّاً مع السلامات والتحيات. لكنّ مَن كان في الضفّة السورية أعرب لمحدّثه القطري عن اعتقاده بأنّ الأمور لم تنضج بعد إلى حدود أن تطأ قدما مسؤول قطري أرض قصر المهاجرين!