لم يستطع الشاب الطرابلسي أن يحبس دموعه. عبثاً يحاول مداراة ذلك. نبأ إصابة عمته وزوجها وابنتها في الانفجار وصله ثقيلاً للتو. يكاد فنان الراب لا يصدق. لم يكن قد مضى وقت طويل على رؤيتهم «كنت مبارح عندن بالسهرة»، يقول بحسرة. بعدها غادر الشاب مدينته في الصباح الباكر ليغني لـ«السلام» في بيروت.
قبل ساعة واحدة فقط من شيوع الخبر، كان زميل الشاب في فرقة «جمعية فنون متقاطعة الثقافية» كمال عباس يروي لـ«الأخبار» حماسة الشباب لمشاركة الصليب الأحمر اللبناني ورشته السنوية. حضروا من أجواء القتل والضرب، كما يقول، بحثاً عن فسحة أمل هنا. يريدون بقوة تظهير صورة غابت في الآونة الأخيرة عن وسائل الإعلام اللبنانية «طرابلس مدينة سلام وتنوع وتعايش بين الطوائف».
عملياً، لم يكن هذا الصراع والازدواجية محصورين بالشباب الطرابلسي فحسب. كل من انخرط أمس في ورشة الصليب الأحمر كان تواقاً إلى السلام والخروج من العنف والوجع. حجم المشاركة نفسها فاجأ المنظمين. مجرد تلبية 55 شاباً الدعوة إلى مناقشة «السلام» في هذا التوقيت بالذات إنجاز بحد ذاته، ومؤشر على الرغبة الشديدة برفض الواقع المعيش، يقول المتطوع في قسم الشباب في الصليب الأحمر محمد شعر. يعزو الشاب حسن نصر الدين الحضور الكبير إلى «أننا تعبنا من حقننا بالإعلام ونبحث عن مساحة جديدة». وتلفت يارا مراد إلى «أنّنا جئنا لنبعد شبح أنّ العالم سينتهي وحان الوقت للانتفاضة على الظلم». وتبدو داليا ديب مقتنعة بأنّ اللقاء «سمح لنا بالتعبير عن أنفسنا وإيصال أفكارنا إلى الجيل الطالع من أجل أقل سلبية ممكنة».
إلا أنّ اندفاع الشباب لم يسعفهم في عزل أنفسهم عن هذا الواقع. حضر طيف الأحداث في لبنان والمنطقة وحرب سوريا في كل الأعمال التطبيقية للورشة. لم يقو المشاركون على تخطي مشاعرهم وأحكامهم المسبقة. اللافت أنّ الشباب الذين طُلب منهم أن يؤدوا دور الصحافيين لم يقرأوا مشاهد تمثيلية أربعة عن عائلة فقدت معيلها وعانت من الفقر والجوع في غير بلدها الأم، سوى أنّها عائلة لاجئة تعاني من التعنيف والهجوم والتمييز في البلد الذي لجأت إليه.
التاريخ هو اليوم. هذا ما يمكن أن تستنتجه من القصص التي اختارها الشباب بطلب من فرقة زقاق التي قدمت عرضاً مسرحياً عن كتابة التاريخ اللبناني.
معظم القصص كانت عن أحداث وحروب وقعت في السنوات والأيام القليلة الماضية. لقد حفظوا تواريخ وأعداد القتلى والجرحى ووقائع تفصيلية لمجازر حصلت خلال الحرب في سوريا في الغوطة الشرقية وحلب وغيرها من المدن والقرى، وتفاصيل عن الانفجارات الأخيرة في لبنان، فضلاً عن حرب تموز ومجزرة قانا ومجازر أخرى وقعت في فلسطين. لم يخف هؤلاء وجهة نظرهم في كل قصة. أحد الشباب مثلاً تبنى حادثة أكل القلب في سوريا، فيما رفض آخر هذه الرواية ليقول إنّ ما حصل أنّ الإعلام شوّه ما حصل فعلاً وهو أنّ أحدهم كان جائعاً واضطر إلى أن يأكل قلب هر وليس قلب إنسان.
تدخل المخرج والممثل في «زقاق» هاشم عدنان ليطلب من الشباب إعادة التموضع في علاقتهم مع التاريخ خارج متاهة المجرم والشهيد و«برات الأبيض والأسود» ومحاولة تكسير الثنائيات التي تسلب عقولنا وتبعدنا عن المشاكل الحقيقية على مستويات صغيرة وعلاقات أوسع مثل: لبنان إما حرب أو سياحة، لبنان إما استثمارات أو خلل أمني، علماً بأنّ كلاً من المفهومين ينطوي على أزمات عدة. يقول إنّ التاريخ ليس وجهة نظر، بل علم وليس بالضرورة الاتفاق عليه. ويرى أنّ «مسؤوليتنا كأفراد تجاه التاريخ والأحداث هي تحفيز الأسئلة التي لها علاقة بالحاضر».
في اللحظة التي وصل فيها خبر الانفجار، ارتبك المنظمون ولم يعرفوا ما إذا كانوا سيكملون البرنامج المقرر ليس للورشة فحسب، بل لاحتفال ساحة الشهداء وإضاءة الشموع وورشة اليوم في السياق نفسه، إلا أن المشاركين رأوا أنّ أفضل ردّ على الإرهاب هو الاستمرار في إنشاد السلام والإصرار على تحقيقه. حتى شباب طرابلس الذين قرروا للحظة مغادرة المكان عادوا وقدموا عرضهم الفني المنتظر.
يدرك متطوعو الصليب الأحمر أنّ الشباب يخفون قصصاً كثيرة ويعيشون ازدواجية على خلفية «بدنا نختلف، بس ما بدنا نتخانق. بدنا نكسّر راسهم، بس ما بدنا الحرب». لكن شعر يقول إنّ المطلوب من «موعدنا السنوي مع السلام هو دق الجرس وليس التغيير بين ليلة وضحاها، فالفكرة لها جوانح وتطير ولا بد للأفكار من أن تتبعثر وتصيب أهدافاً كثيرة في عز الصراع».