لم أر ذلك الاصفرار في الوجوه منذ وقع الانفجار قرب المدرسة في الثمانينيات. تكدّس الجيران على الشرفات بانتظار وصولنا سالمين، ثم تجمّعوا في شقّتنا لمزيد من الاطمئنان ولتشارك المُصاب. في طرابلس لا جدران نفسية بين شقق البناية الواحدة تعزل السكّان بعضهم عن بعض كما في بيروت. وعندما تقع المصيبة يتوجه الكلّ الى شقّة واحدة يحملون ما في داخلهم على وجوههم وتعلو التعليقات فوراً بطريقة عفوية.
عندما اغتيل رفيق الحريري ارتفعت الأصابع والدعاء واحد: «الله ينتقم منهم»، لا اتهامات واضحة لكن الحقد على «المجرمين». بعد أيام على أحداث 5 شباط 2006 والهجوم على السفارة الدانماركية في بيروت، انتظرت الجارات الثلاث عودتي من العاصمة عند مدخل شققهن: «يا عيب الشوم عليهم»، «هم لا يمثلوننا»، «قولي لأهل بيروت ان الطرابلسيين ليسوا هكذا». أم خالد وأم أحمد وفاتن، ثلاث نساء متديّنات وُلدن في طرابلس ولم يرغبن يوماً بمغادرة منطقة الزاهرية، حتى في عزّ القصف ومواسم النزوح المعاكس. «الله يهدّك يا إسرائيل» أجمعن في حرب تموز 2006 وبكَين على ضحايا مجزرتي قانا ومروحين. أم خالد فتحت بيتها الصيفي لاستقبال «أهلنا» المهجرين من الجنوب. في 7 أيار 2008 عيون خجولة والسؤال يتكرر «كيف وصلنا الى هنا؟». عند اغتيال اللواء وسام الحسن، كلام قليل ووجوه حزينة وغصّة، «كان آدمي». أما في جولات باب التبانة وجبل محسن الدامية، فكلمة وحيدة تتردد «شغل زعران... كلّ عمرنا أهل».
عند كل زيارة، بعد غياب قصير، تخبرك الزاهرية بوضوح أن الأمور ليست بخير. منذ أسابيع، حاولت الجارات الثلاث رسم ابتسامة تعبة خلال الجلسة المسائية. لكن الحديث عن الوضع المعيشي وحركة السوق المشلولة كان كفيلاً بمحوها سريعاً. لم تعتد فاتن أن تطلب من أحد أن يتكفّل بعلاجها، أم أحمد باتت تتشارك شقتها مع مستأجرين لكي تؤمّن مصاريف ولديها. أحمد قرر حمل مسدس على خصره فانشغل الجميع بمعالجة هذه «الكارثة».
لم تعتد طرابلس بعد على هذا الكمّ من الحزن. تآلف معظم سكّانها مع القهر وتعايشوا مع الحرمان منذ زمن. صحيح. لكن تلك المنازل الضيقة التي تعجّ بالأطفال لم تتسع يوماً للأحزان الدائمة. نجاح أحد أبناء الجيران في شهادة رسمية كان كفيلاً بانتشال الشقق من سباتها، عودة الحجاج سنوياً الى منازلهم كانت تقلب عتمة السلالم الى زينة وألوان وزغاريد. الحزن تسلّل فجأة الى المدينة الغاضبة فأفرز توتراً رابضاً في كل حيّ على مدار الساعة.
دوّى الانفجار أمس. اهتزّت بعض شقق الزاهرية. «جدار صوت؟» تساءل البعض، قبل أن يعلو دخان أسود كثيف. إطمأنّ الجيران إلى ذويهم بهدوء واقتضاب. لكن صمتاً مريباً عمّ السلالم وغرف الجلوس والشرفات. لم تشأ أم خالد التعليق ولم تصرخ أم أحمد غضباً ولم تستعن فاتن بآية قرآنية لتهدّئ الأجواء. اصفرّت الوجوه وتسمّرت العيون في الفراغ. دموع حبيسة في القلب والعيون تسترجع مشاهد لأيام سوداء كريهة.
لم يسأل ذلك النائب الفاجر أم أحمد عن رأيها في مرتكب التفجيرين قبل أن يدلي بتصريحه الفتنوي مباشرة على الهواء. لم يزر ذلك السياسي الزاهرية منذ زمن، لكنه أصرّ على التحدّث باسم أهلها، فعبّر عن كراهية لا تطاق. لن يرى سكان بيروت أو المتن أو الجنوب عيون الطرابلسيين القابعين في منازلهم والتي تشي بحزن عظيم. فالمطلوب، سياسياً، الآن، كلام مسموم يعلو فوق الألم. لن تزور الكاميرات شقق الزاهرية الحزينة، فالشاشة لا تحبّ الصمت.