لم ينشئ البطريرك بشارة الراعي، غداة اجتماع القيادات المسيحية الأخير في بكركي في 3 نيسان الماضي، غرفة عمليات استثنائية لتوليد قانون الانتخاب، نظراً الى أثره المفصلي في النفوذ المسيحيّ في النظام الطائفي، ومعرفة الراعي أن لتبنيه الاقتراح الأرثوذكسي أثراً مباشراً في إحراج القوات والكتائب وإخراجهما من دوائر تيار المستقبل الانتخابية. كان البطريرك نصر الله صفير سيسرب خبراً في إحدى الصحف عن استيائه، ويلوذ بالصمت ريثما ينهي المجرم جريمته.
أما الراعي، فحزم حقائبه وسافر، في أكثر الأوقات حساسية، إلى أبعد ما يمكن أن تصل اليه طائرة لبنانية. نأى البطريرك بنفسه.
تقام مراسم دفن «الأرثوذكسي» هنا، فيما البطريرك الماروني يعزي أهالي فنزويلا بوفاة الرئيس هوغو تشافيز. يدير الراعي ظهره لرئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون. هو، أيضاً، يتركه وحده، ولا يعقد المطران سمير مظلوم مؤتمراً صحافياً طارئاً ليضع إصبعه على الجرح النازف. ورغم التطورات، لا يقطع البطريرك زيارته، وتبقي بكركي موقفها الانتخابيّ الأخير عند الالتباس الذي تركته تصريحات مطران بيروت بولس مطر، الأقرب بين المطارنة إلى الرئيس ميشال سليمان وتيار المستقبل. باختصار، نأت بكركي بنفسها عن عدم ذهاب القوات بمشروع «الأرثوذكسي» حتى النهاية كما وعدت. كان الخبر البطريركيّ الرئيسيّ، أول من أمس، إهداء الدولة الفنزويلية الراعي الصليب الذي كان يحمله (الرئيس الفنزويليّ السابق هوغو) تشافيز في يده غالبية الأوقات.
سكوت البطريرك عن الانقلاب على المشروع الذي اتفق «أبناؤه» أمامه على تبنيه، لا يوازيه سلبية إلا كلام حزب الكتائب في اليومين الماضيين. لا يمكن للقاء كتائبيّ من عندقت في أقصى الشمال حتى رميش جنوباً، مروراً ببيوت الكورة والبترون وجبيل وكسروان والمتن وبعبدا والشوف وزحلة الكتائبية إلا أن تسمع الشكوى نفسها من خنق العنكبوت القواتية بشبكاتها النفوذ الكتائبيّ هنا وهنا وهنا. ليس في هذا الحزب مسؤول لا يحمل في جيبه نسخة عن حجمي الكتائب والقوات في دائرته قبل بضع سنوات وحجميهما اليوم. لم يتغير شيء؛ الكتلة الخضراء الكبيرة في الجدول السابق صارت حمراء في جدول اليوم. لا يحلو للقوات مرشح حزبيّ كسروانيّ غير شوقي دكاش لتقطع بذلك طريق ترشيح الكتائب سجعان قزي. تتصرف باعتبار النائب أنطوان زهرا أمراً واقعاً في البترون، شاء حزب الكتائب ونائبه سامر سعادة أو لا. وعلى كتائبيي جبيل وأد أحلامهم النيابية لتمسّك معراب بترشيح النائب السابق فارس سعيد إلى جانب مرشح رئيس الجمهورية. وفي عكار، تضمن القوات حصتها، أياً كان قانون الانتخاب، تاركة للكتائب تدبّر أمرها بأحد المقاعد السنية مع تيار المستقبل. وبعيداً عن زحلة التي تتصرف القوات باعتبارها الامتداد الطبيعي لبشرّي وليس للمتن، يكاد سمير جعجع يعلن، من دون الرجوع الى أحد، لائحة قواتية في المتن الشمالي حيث لم يعد يكفيه مرشح واحد عن المقعد الماروني، فيطالب بماروني آخر وأرثوذكسي وكاثوليكي.
لا يزال النائبان السابقان منصور البون وفريد هيكل الخازن هما البون والخازن شعبياً في كسروان. لكن حزب الكتائب ما عاد، في الحجم، حزب الكتائب. والنائب بطرس حرب، كما التيار الوطني الحر، لا يزالان هما نفسهما في البترون، أما الكتائب فما عاد، في الحجم أيضاً، حزب الكتائب. ثمة حزب يُبتلع، وهو يعرف بالعه جيداً. ورغم كل ما يشيعه آل الجميل، يجزم أحد معارفهم، أن أحداً في العالم لا يعلم أكثر منهم بحقيقة الرغبات الجعجعية في ما يخص حزبهم، وتحديداً كرسي مؤسس الحزب بيار الجميل. لكن، ولأسباب لا يفهمها أحد، لا تخرج من الحزب صرخة كفى واحدة. لا يغص الرئيس أمين الجميل، لا «يكحّ» ولا «يبقّ» ولو واحدة من البحصات الكثيرة التي يراكمها أحدهم منذ سنوات في «زلعومه».
قبل انتخابه رئيساً، كان «العنيد» رجل المهمات الصعبة في البيت الجميليّ، فيما كان بشير «غنوج» والده. ثمة جيل من المقاتلين خبر أمين الجميل، يعرف أنه ما كان ليصل إلى زحلة عشية حربها الشهيرة ويعود من دون خوض معركة واحدة، ويعرف أنه ما كان ليتخذ موقفه الرئاسي من حرب الجبل وشرق صيدا فيما لو كان لا يزال أمين الجميل الكتائبيّ. لكن الرئاسة غيّرته. «غيّرته كثيراً» يقول معارفه: بردت أعصابه وبات كإسفنجة يمتص الضربة تلو الأخرى من دون رد فعل. سمير جعجع ــ لا الاستخبارات السورية ــ نفى أمين الجميل من المتن الشمالي بعد مغادرته قصر بعبدا. غيّرته الرئاسة كما غيّرت النيابة ابنه سامي الجميل. قبلها، وتحديداً قبل اغتيال شقيقه بيار، كان سامي مشاغباً عفويّاً يقول كل ما يفكر فيه ويبالغ في أحلامه. لم يكن يريد شيئاً من والده وحزب جده، لثقته بقدرته على صنع شيء من اللاشيء. أما اليوم، فيتحكّم حذر ما بعده حذر ليس بكلماته فقط، وإنما بأنفاسه أيضاً.
كان المشروع الأرثوذكسي يمثل فرصة لتحقيق المصلحة المسيحية بالنسبة الى بكركي، ولتحقيق المصلحة الكتائبية بالنسبة لحزب الكتائب، لكن القوات أطاحت الفرصتين في تطييرها قانون الإجماع المسيحي. يمكن بكركي المضي في صمتها قدماً، فيضع بطريركها حداً للرهانات المتفائلة عليه، كما وضع سلفه يوم كان بطريركاً جديداً حداً للآمال الشعبية والفاتيكانية المعلقة عليه بعد قبوله بـ«أهون الشرين» ممثلاً باتفاق الطائف. ويمكن الكتائب الاستمرار بالاعتراض الشكلي على تفاصيل اقتراح القوات ــ المستقبل ــ الاشتراكي بعيداً عن الأساس، وسيدفع ذلك سامي الجميل إلى الترشح عاجلاً أو آجلاً على لائحة القوات اللبنانية في المتن الشمالي. لكن يمكن هاتين القوتين المؤثرتين التصالح مع نفسيهما عبر الانضمام إلى التيار الوطني الحر في خطوة مسيحية جدية تمنع عقارب الساعة من العودة إلى حيث يريدها جعجع أن تعود. هناك، في الرابية، إلى جانب العماد ميشال عون، حزب الطاشناق والنائب سليمان فرنجية ومرجعيات رهبانية والنائب السابق إيلي سكاف، وفم جعجع يمتلئ بالماء. فكيف إذا رآهم يشبكون أياديهم، في زحلة أو البترون أو الأشرفية أياً كان قانون الانتخاب، بيدي الراعي وآل الجميل ويرفعون قبضاتهم؟