أولاً، اختيار المملكة توظيف مساعداتها المالية (رغم هزالة المبلغ الذي لا يتعدّى 10 ملايين دولار) في مشاريع تشرف عليها الهيئة العليا للإغاثة. إذ لم «يخترع» السفير السعودي جمعية ما ليكلفها الإشراف على هذه المساعدات وتوزيعها، بل كان هناك إصرار على المرور عبر الدولة اللبنانية والحرص على التعاون مع الحكومة المتّهمة بأنها «حكومة حزب الله»، والتي يعدّ الحزب الأكثر تأثيراً فيها، والتي تتخذ موقفاً مسانداً للمقاومة. لذلك، فإن اختيار المملكة تدشين حفل مذكّرة التعاون في السرايا برعاية ميقاتي يعني أن «تبدلاً جذرياً» يحصل في مركز القرار السعودي تجاه لبنان الرسمي، بالتزامن مع العودة الى سوريا والتفاهم مع إيران، وفق مصادر مطلعة.
ثانياً، من الواضح أن المتضرر الأول من هذا الانفتاح المستجدّ والرغبة في التعامل مع الحكومة مباشرة وطيّ صفحة القطيعة السياسية والمالية، هو رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع. اذ كان يمكن للرياض حصر هذا الدعم بمعراب عبر دعم مشاريع في البلدات التي يملك نفوذاً فيها. غير أن لائحة المشاريع الإنمائية التي عرضت على الشاشة والممتدّة من الشمال الى الجنوب تشير الى أن «مركز الملك سلمان» اختار دعم مشاريع تستفيد منها كل الأطراف السياسية. وبدا لافتاً إيلاء اهتمام خاص للمشاريع التي تقدّم بها نواب الطائفة السنّية في الشمال والبقاع وبيروت، ما يعدّ اعترافاً بـ«شرعيتهم». وأكثر ما كان لافتاً الدعم الذي خصّصه السعوديون لأحد المراكز الطبية في بلدة عين الزيت (عكار) وهي بلدة علويّة صرف.
اهتمام خاص بالمشاريع التي تقدّم بها النوّاب السنّة في الشمال والبقاع وبيروت
في المحصلة، بلغ عدد المشاريع التي تحدث عنها البخاري 28 مشروعاً، وعلمت «الأخبار» أنه أبلغ ميقاتي أن الـ 10 ملايين دولار هي «البداية»، وثمة توجّه لدعم المزيد من المشاريع الإنمائية والإنسانية والاجتماعية. وأتت الحصة الكبرى من الدعم لعكار وطرابلس والمنية والضنية، وأبرزها: صيانة بركة تجمّع المياه في خراج بلدة بقاعصفرين لتأمين المياه الى مزارعي المنطقة حقناً للدماء بين أعالي بشري والضنية، حيث وقع قتلى سابقاً نتيجة خلاف على المياه، إنشاء مبنى لبلدية المنية، تأهيل وصيانة مستودع وأدراج كلية الآداب في طرابلس وترميم مركز الأرشيف المتضرر فيها منذ الحرب الأهلية، تأهيل بعض المهنيات في عكار. وفي البقاع، تضمّنت اللائحة إنشاء قناة ترابية لتصريف مياه الأمطار في مجدل عنجر ومدرسة خاصة لعشائر الفاعور. وفي الجنوب، انحصرت المشاريع الأربعة بمدينة صيدا: تأمين التغذية الكهربائية لمحطات ضخ المياه، تركيب أجهزة إنارة تعمل على الطاقة الشمسية في طرقات صيدا، تحديث أجهزة المعلوماتية في مدارس المقاصد والقيام بأعمال صيانة في معهد صيدا الفني. وحصلت بيروت على حصة كبيرة من المشاريع عبر دعم المؤسسات المحسوبة على الطائفة السنّية كتأهيل مهنيات في الطريق الجديدة وجامعة المقاصد ودار الأيتام وتجهيز مستوصفَي دار الفتوى بالماكينات الطبية. كذلك الأمر في الشوف، حيث تركّز الدعم على المشاريع التابعة للنائب السابق وليد جنبلاط كتجهيز مدارس العرفان بالألواح التفاعلية وشراء معدات طبية لمستشفى عين وزين وترميم معهد شحيم الفني. أما الحصة المتدنّية فكانت للمناطق المسيحية، حيث اقتصر الدعم على 3 مشاريع: تأهيل وإعادة فتح طريق بشري الأرز الذي تحتفل النائبة ستريدا جعجع كل عام بإنجازه، وهو طريق سبق أن تمّ تلزيم تعهداته كافة، إنجاز طريق عين علق - بيت مسك في المتن الشمالي حيث دأب نواب المتن منذ عام 2017 على التبشير ببدء الأعمال به، وتأمين الطاقة الشمسية لعيادات دير مار يوحنا الطبية في بلدة الخنشارة في المتن الشمالي، وهو مشروع تقدّم به النائب ملحم رياشي.
والواضح من خلال آلية توزّع المشاريع ونوعها أن السعودية تدخل الى لبنان مجدداً على طريقة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID بعدما كانت توزع الحقائب المالية والمكرمات على المرضيّ عنهم. والواضح أيضاً تيقّنها أن الـ 2.7 مليار دولار التي قال البخاري إنها صرفت على مشاريع إنمائية في لبنان سابقاً لم تأت بالعائدات المتوقعة، فمرّت مرور الكرام من دون أن تتوّج بمؤتمر في معراب وبكفيا لشكرها أو بحفل تكريم في قريطم. لذلك بدلّت المملكة استراتيجيتها عبر توظيف أموالها اليوم بالمؤسسات لا السياسيين، وبوضع لائحة محددة بالمشاريع وقيمة كلّ منها الى جانب شروط ومعايير وإشراف جدّي ليستفيد منها المواطنون لا رؤساء الأحزاب. وهي بذلك تتبنّى الاستراتيجية «الأنجي أوزية» في العمل وتحذو حذو المنظمات الدولية التي تستثمر في مشاريع وعناوين محددة، وربما ستكون هذه الاستراتيجية هي عنوان المرحلة المقبلة لفتح السعودية صفحة جديدة مع لبنان، من دون أن تلغي بالطبع الدعم الانتخابي المباشر عند اقتراب الاستحقاق.