لعل الفكرة الأبرز من جولة وفد الحزب التقدمي الاشتراكي على القيادات السياسية، هي حرص الحزب، ومن خلفه رئيسه السابق وليد جنبلاط، على عدم كسر الجرة مع الأطراف المسيحيين، لا بل الحفاظ على فكرة التواصل مهما كبرت الخلافات بينه وبينهم. وليست المرة الأولى التي يظهر فيها الاشتراكي هذا النوع من الحرص، وعدم دعم فكرة أو مشروع «ينقز» القوى المسيحية الأساسية ولو لم يتوافق معها على كثير من التفاصيل والعناوين المحلية والإقليمية. فالمبادرة في حد ذاتها، لا تنقلب على كثير من الأفكار التي طُرحت خلال الأشهر الطويلة التي مرّت وحفلت بأنواع مختلفة من المبادرات، من جانب معظم القوى السياسية، وانتهت إلى المكان نفسه. لكنها تسعى في لحظة حساسة تكثر فيها التهديدات الإسرائيلية وتتأزّم العلاقات الداخلية، إلى إبقاء جسور تواصل بالحد الذي يسمح بالإبقاء على الاستقرار الداخلي أمراً واقعاً.والمفارقة أنه في وقت حلّ وزير الخارجية الإيراني بالإنابة علي باقري كني في بيروت، كان النقاش الداخلي يتحوّل من المهمة الأساسية التي قامت على أساسها اللجنة الخماسية من بحث في انتخاب رئيس للجمهورية، إلى نقاش حول الحوار أو التشاور وغرق الأطراف اللبنانيين في سجال حول من يملك الحق في الدعوة إلى الحوار أو عدمها. ويعكس هذا التحول عمق التباين بين طرفين: حزب الله وخلفه إيران، والقوى الداخلية ومعها على توافق أو تفاهم بالحد الأدنى دول اللجنة الخماسية، في التعامل مع الاستحقاق الرئاسي ليس كنقطة تحول أساسية يحتاج إليها الوضع اللبناني للخروج من أزمته، إنما كمحطة من محطات النقاش الإقليمي والدولي حول مستقبل لبنان، وضمناً التعامل مع الثنائي كطرف وحيد مؤثّر أو محاولة تقييد محاولته التفرد بإدارة الأزمة.
إذا كان من المسلّم به منذ ما قبل مجيء الموفد الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت أن الزيارة ليست مفصلية بالمعنى الرئاسي، بل إحاطة أكبر من ملف الرئاسة لكونها تعكس القلق على مستقبل لبنان، فإن من المسلّم به كذلك أن كل ما سبقها وما سيتبعها بات من بديهيات التعامل مع أزمة الرئاسة على أساس أنها ليست منعزلة عن التعامل مع واقع حزب الله. وزيارة الوزير الإيراني في لحظة تسبق مشهد الانتخابات الرئاسية الإيرانية، وقبل اتضاح صورة الحكم الجديد، تؤشر إلى حرص إيران على الحضور في ساحتها على المتوسط، استباقاً لأي تأويلات تتعلق بمرحلة تقبل عليها في أسابيع قليلة.
وإذا كان العالم ينتظر ما ستفرزه الانتخابات الإيرانية، وقبلها يترقب مصير الترشيحات وقرار مجلس صيانة الدستور قبول شخصيات أو رفضها، فإن من المبكر رصد أي تحول في ما يتعلق بلبنان. وكما يمكن أن يكون هذا الموعد مؤثّراً في اتجاهات حرب غزة والمفاوضات حولها، يصبح كذلك بالنسبة إلى لبنان مع فارق أساسي يتعلق بموقع حزب الله المختلف جذرياً عن موقع حلفاء إيران في غزة، وتأثيراته في العمق اللبناني ليس لجهة الحرب والسلم فحسب، إنما في تقييد أي حركة رئاسية، ما دام يملك مفتاح تعطيلها.
ترحيل اللجنة الخماسية للملف الرئاسي مجدّداً اعتراف بأن اللحظة لم تحن بعد


لم تتصرف دول اللجنة الخماسية بأقل من هذا السقف في تعاطيها مع حزب الله على مدى الأشهر الماضية. وقد تتمايز بعضها في محاولة الالتفاف على موقف حزب الله، بالتعاون مع قيادات لبنانية، في تسمية مرشحين مقرّبين من الثنائي، فيما ظلت السعودية تحديداً على موقفها المعارض لمرشح حزب الله، مذكّرة برسائلها السابقة حيال ترشيح موالٍ له. ولم تظهر أي نتائج عملية لتعدد المبادرات الجماعية عبر اللجنة الخماسية أو إفرادياً كما تفعل قطر بين حين وآخر منذ أشهر، وفرنسا، فيما تكتفي مصر بالدور المرسوم لها من دون أن تستعيد فاعلية حضورها السابق. ولاقت المبادرات المحلية النتيجة نفسها، إذ أظهرت أن الحزب قادر على فرملة أي اندفاعة خارجية أو داخلية في اتجاه الرئاسيات، ما دام مرشحه لم يحظَ بالأصوات التي تجعله رئيساً. وهو على إيقاع حرب غزة، ضاعف من فاعلية دوره الإقليمي والدولي، وبات الكلام عنه مع الدول المعنية كفرنسا التي كانت أول من بادر إلى فتح قنوات دبلوماسية وسياسية معه، يوازي الكلام عن لبنان الرسمي. وفي هذا الوقت يجمع أوراقه الداخلية بلملمة أطراف داخليين مسيحيين ومسلمين في أكثر من منطقة، في إعادة تجميع خلطة تذكّر بمراحل سابقة، ويعيد إنتاج طبقة سياسية أقرب اليه، لتظهير مروحة أوسع من الالتفاف حوله، ويعيد التمسك بما وضعه على الطاولة منذ اللحظة الأولى، لتصبح الكرة اليوم في ملعب القوى المعارضة له، حول السيناريو المفترض لكسر هذا الإيقاع، وفي ملعب اللجنة الخماسية. فإذا كانت لفرنسا مصلحة في إبقاء تقاطع مع حزب الله، وفي عدم كسر التواصل مع السعودية، فإن ترحيل اللجنة الملف الرئاسي مجدداً، يعني اعترافاً واقعياً بأنّ اللحظة لم تحن بعد، وأن انتخابات إيران قد لا تكون وحدها المحطة المنتظرة للفصل في الوضع اللبناني.