«نحن في بلد يشهد تحوّلات فظيعة في البنية الاقتصادية والاجتماعية»، بهذه العبارة استهلّ رئيس مركز الاستشارات والبحوث كمال حمدان كلمته في الندوة التي عُقدت يوم الخميس الماضي، بدعوة من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وبعنوان «موازنة عام 2024 قاصرة لانهيار متمادٍ». هذه التحوّلات تبدأ بانكماش الاقتصاد من 55 مليار دولار، إلى ما بين 18 مليار دولار و20 مليار دولار بحسب تقديرات المؤسّسات الدولية، أي بنسبة 40%. وفي السياق نفسه، تقلّصت الموازنة العامة من 15 مليار دولار إلى 3.5 مليارات دولار، أي 25% مما كانت عليه قبل 4 و5 سنوات. ولبنان في حالة تضخّم تراكمي منذ عام 2018 انعكس تضاعفاً في مؤشّر الأسعار بنحو 48 مرة، أي 4800%، وضمنه تضاعف مؤشّر الغذاء «الذي يعتبر المؤشر ذا الحساسية الأعلى لتفحّص أوضاع الفقر والفقراء» نحو 56 مرّة، فيما تضاعف سعر الدولار مقابل الليرة نحو 60 مرة.هكذا يبدو واضحاً لحمدان، أن «الادّعاء بأن موازنة 2024 هي بصفر عجز هو مجرّد وهم. «بدايةً ليس هناك قطع حساب. ومن غير الممكن معرفة ما حصل في نهاية عام 2024، ما دام ليس لدينا قطع حساب عن السنوات الماضية، وعن حسابات نهاية عام 2023». ثم فصَّل حمدان الإيرادات في الموازنة قائلاً: «الإيرادات هي 3.45 مليارات دولار. و80% هي إيرادات ضريبية، مباشرة أو غير مباشرة. و20% هي إيرادات مختلفة بما فيها تحويلات تأتي من مؤسسات عامة»، ويتبيّن لحمدان بعد معاينة أرقام الإيرادات، أنّ 80% من الإيرادات الضريبية تتأتّى من ضرائب ورسوم غير مباشرة، ما يعني أنها تطال كل الناس، ومنها 33% تأتي من ضريبة القيمة المضافة، و11% هي عبارة عن رسوم جمركية (تصيب السلع المستوردة)، ورسوم عقارية 9.7% (تسجيل عقارات). لذا ما قيل إنه لم يكن هناك ضرائب ورسوم جديدة، هو وهم كاذب أيضاً، إذ يعتقد حمدان أن «الزيادة في بنود الإيرادات كانت استثنائية. ففي نص الموازنة، ورد صراحة أن هذه الزيادات تتراوح بين 10 أضعاف و46 ضعفاً، وأنها في حالات نادرة تصل إلى 60 ضعفاً، ما يعني أنهم طبّقوا ارتفاع سعر الدولار نحو 60 مرة في حالات معينة». بل تبيّن أنه جرى تضخيم الإيرادات أيضاً «مثل توقّعات الضرائب التي ستحصّل من مخالفات الأملاك البحرية».
99% من العاملين في القطاع العام يعيشون ضمن هامش خطوط الفقر


على ضفّة النفقات، يرى حمدان، أنه من اللافت أن يكون نصف الإنفاق «يصبّ على أكلاف الأجور ومخصّصاتها، أي كل ما له علاقة بالتقديمات الاجتماعية المرافقة للأجر وتعويضات نهاية الخدمة والصحة والتعليم وكلفة موظفي الدولة المؤمنين لدى الضمان». وأعتقد أنهم من الاحتياط سيغطّون تصحيح الأجور». ولكن لفت إلى أنّ «التعديلات كلها التي وردت لا تعتبر بمنزلة تصحيحٍ للأجور ورواتب العاملين في القطاع العام كونها لا تدخل في صلب الراتب، وبالتالي لا تدخل في حساب تعويضات نهاية الخدمة أو المعاش التقاعدي، وهذا يبقي سيف القهر والظلم وأوجه عدم اليقين حول المستقبل المعيشي للناس مسلّطاً على كل العاملين في القطاع العام». فالزيادة على الرواتب لم تحصل بشكل عادل، بل «تضمّنت قرارات الحكومة أوجه تمييز واضحة بين فئات العاملين في القطاع العام، ما يعكس درجة التخبّط والاستنسابية والعشوائية في تعاطي الحكم مع قضية بالغة الأهمية مثل قضية الأجور. مثلاً، الدعم الإضافي المقدّم بالدولار، يتفاوت بحسب الفئات الوظيفية، وتعويضات النقل تتفاوت، فهي 9 ملايين ليرة لعموم العاملين في القطاع العام، أي 450 ألفاً يومياً، ولكن لا تنطبق على الموظفين الإداريين الذين مُنحوا أكثر من هذا المبلغ عن طريق بدعة تنكات البنزين. وتجب الإشارة إلى أنّ من يأخذ 16 تنكة مثلاً، قيمتها 24 مليون ليرة، وهذا يعتبر راتباً كاملاً». ومن عوامل التمييز أيضاً «استحداث بدعة بدل المثابرة التي تُمنح لموظفي الإدارة».
وأشار حمدان إلى أنّ «نحو 340 ألف عامل في الخدمة، بالإضافة إلى المتقاعدين، يحصلون على تسعة أضعاف الراتب الأساسي، بزيادة راتبين لموظفي الخدمة وثلاثة للمتقاعدين، وذلك ربما للحدّ من حراك العسكر في الشارع. وفي الوقت نفسه إقرار زيادات (انتقائية)، كما أسموها، للضباط المتقاعدين من رتبة عميد وما فوق. بشكل عام، أصبح الحدّ الأدنى لراتب المتقاعد العسكري أو المدني 230 دولاراً من دون النقل، ويرتفع إلى 900 دولار لموظفي وضباط الفئة الأولى». وأشار حمدان إلى أنّ «99% من العاملين في القطاع العام يعيشون ضمن هامش خطوط الفقر، ما بين الخط الأدنى والأعلى للفقر، لأن الأسر تحتاج لتعيش في مستوى الكفاف، أي مستوى عدم الموت، نحو 450 دولاراً، والخط الأعلى 930 دولاراً». وختم حمدان: «في أفضل السيناريوهات لما سيصدر في الجريدة الرسمية عن الأجور سيكون تقريباً العاملين بأجر في القطاع العام مع تطبيق كل هذه الزيادات عند 20% أو 25% من قوتهم الشرائية قبل الانهيار. وأخطر ما قد ينتج من هذا الاقتصاد العميق عبر احتكار القيمة هو هجرة ما تبقّى من كوادر في القطاع العام إلى القطاع الخاص أو إلى الخارج».