«بينما نظهر تضامننا ونمدّ يد المساعدة لإخواننا البشر في قلب المعاناة، نصبح لاعبين أكثر مركزية في السياسات الدولية مما تمكّننا به ظروفنا الطبيعية، الأمر الذي يجعلنا مساهمين أكثر خبرة وشركاء محادثة أكثر إثارة للاهتمام، ويفتح لنا أبواباً مغلقة» 
كنوت فوليبيك Knut Vollebek وزير خارجية النرويج السابق


«عمليات السلام تجعلنا نبدو مثيرين للاهتمام… نحن بحاجة الى عدّة منتجات من هذا النوع. فالحرب الباردة لم تعد من هذا النوع من المنتجات» 
وزير الخارجية النرويجي السابق توبيورن ياغلاند Thorbjørn Jagland


هناك الكثير من الاقتباسات لسياسيين نرويجيين يتحدثون فيها عن منافع التدخلات الإنسانية للنرويج، ولكن بالنسبة إلى الوزير الأخير هناك خصوصية، إذ إن حملة حزبه الانتخابية قامت على محاربة المساعدات والتدخلات في الخارج وما تتطلّبه من إنفاق. ولكنه فوجئ عند كل لقاء مع نظرائه البريطاني والأميركي والأوروبيين، أنهم كلهم يسألونه أولاً عن سريلانكا (وقتها كانت النرويج تقود عملية سلام وترمي بثقل منظماتها للتدخل في الجزيرة)، فاكتشف الوزير أن ما بين يديه ذهب دبلوماسي، وهكذا أصبح من أشد المدافعين عن هذه التدخلات. حماسة الخارجية النرويجية وصلت بها إلى حدّ إطلاق حملة ترويجية للنرويج عام 2003 على أنها «قوة إنسانية عظمى».
وزير الخارجية النرويجي السابق أيضاً يان بيترسون



القوة الإنسانية العظمى، عقدة الحجم
الدافع وراء التهافت على صيت القوة العظمى لدى النرويج مردّه صغر حجمها (في المساحة والسكان والعمر أيضاً). تكرار حديث سياسييها حول المسألة يشي بأنها أقرب الى عقدة تسكن اللاوعي منها إلى التوصيف الموضوعي. وكما يشرح كتاب «الدول الصغيرة والسعي إلى المكانة، بحث النرويج عن موقع أعلى» فإن النرويج هي من الدول الصغيرة التي تعاني من تقلقل المكانة (status insecurity). فالمكانة بالنسبة إلى الدول الصغيرة هي أحياناً عملتها الوحيدة لضمان مصالحها السياسية والاقتصادية، وخصوصاً إن كانت أضعف عسكرياً، وضعفها هو ما يدفعها إلى تبنّي خطاب سلمي/ محايد في الظاهر. ويكمل الكتاب أن المكانة بالنسبة إلى القوى العظمى هي أن تكون الدولة قوة يحسب لها حساب، أما المكانة بالنسبة إلى الدول الصغيرة فهي أن تكون مرئية من قبل القوى العظمى لا أن تتحداها (بشكل عام). فالدول الصغيرة تبحث عن موقع تحت جناح القوة المهيمنة من خلال خدمتها وتوظيف نفسها بشكل مفيد في ظل هذه الهيمنة. النرويج من هذه الدول. لا ترمي بقنابلها في وجه واشنطن حفاظاً على السلام، ولكن يسعدها رميها الى جانب واشنطن كما حدث في ليبيا. وقتها هنأ أوباما رئيس الوزراء النرويجي ينس ستولتنبرغ (انتخب أميناً عاماً لحلف الأطلسي خمس مرات) على المساهمة في هذا القصف «الإنساني» مثنياً على قدرة النرويج على «الضرب بأعلى من وزنها»، ولفخر السياسيين النرويجيين بهذه اللحظة تمّ تبنّي هذا الشعار عن بلادهم.
بالنظر الى تاريخ النرويج، يظهر أن عقدة الحجم هذه تقف وراء الكثير من القرارات السياسية المفصلية في تاريخ هذا البلد الصغير، من صياغة الدستور في عهد الوحدة مع السويد إلى الاستقلال، ومن ثم الانضمام الى حلف شمال الأطلسي وعدم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ودعمها للعدو الصهيوني، بالإضافة إلى نشاطها الإنساني في دول العالم الثالث وتصوير ذاتها كقوة عظمى في هذا المجال. لا خلاف بين مختلف القوى السياسية التي تتداول الحكم في هذا البلد على أن هناك ضرورة لجعل أنفسهم مفيدين للقوة العظمى الحقيقية غرب المحيط لكسب «المكانة». المهزلة هي أن النرويج تبشّر بفضيلة تدخلاتها الإنسانية باعتبارها دولة صغيرة غير مريبة وبلا مصالح استعمارية، إلا أن من الواضح أن لها كل المصلحة في الاستعمار وفي أن تكون يده اليمنى بسبب حجمها الصغير وبعدها الجغرافي.

المصالح في البحار
للاقتصاد النرويجي ركيزتان أساسيتان. الأولى أسطولها البحري التجاري وهو يعدّ من الخمسة الكبار في العالم لحوالي قرنين. وعندما يتعلق الأمر بخطوط الملاحة بالذات، فالمسألة (تاريخياً وبطبيعة الحال) لا يمكن أن تكون اقتصادية بحتة. إذ إن السيطرة على التجارة البحرية لطالما كانت شأناً إمبراطورياً. وعليه، أَملَت هذه المصلحة على النرويجيين منذ استقلالهم تملّق القوى العظمى المسيطرة على البحار (بريطانيا ومن بعدها أميركا). مع موازين القوى في عالم القطب الواحد، تبدو النرويج أكثر حاجة لضمان استمرار الهيمنة الأميركية، فلناحية الشمال تحتاج إلى الناتو بقدر ما هو بحاجة إليها، إذ إن الصراع مع روسيا على القطب الشمالي محتدم ليس فقط للسيطرة على ثرواته النفطية، بل لأنه أصبح ممراً موسمياً للتجارة العالمية. وبالنسبة إلى روسيا والصين، فهو يعدّ ممراً أقل كلفة وأكثر أمناً للولوج إلى الأطلسي. 
بحار العرب أيضاً هي في قلب الحسابات النرويجية، بالرغم من بعدها الجغرافي. وهذا الاهتمام البحري قديم، وهو لا يزال مستمراً إلى اليوم. في خطاب لوزيرة الخارجية النرويجي في أيار الماضي لطلاب في جامعة أوسلو يحثّهم فيه على كتابة أبحاثهم ودراساتهم العليا حول «الشرق الأوسط»، أوضح مصالح النرويج في المنطقة بعد ديباجة حول حقوق الإنسان والتنوع الثقافي والطاقة الخضراء والبيئة وما إلى ذلك من «لزوم الشغل» الإنساني. دخل الرجل في صلب الموضوع وقال: «هذه البلاد هي جسور ومحاور على التقاطعات بين الشرق والغرب، الشمال والجنوب. إن البحر المتوسط، البحر الأحمر، والخليج الفارسي، جبل طارق، السويس وهرمز، أسماء تفتح الممرات المائية التي تصل وتصارع والتي تقطع. تذكروا أن 90% من كل سلع العالم تنقل عبر البحر وأن النرويج هي رابع أكبر دولة في الشحن البحري لناحية القيمة». وأضاف في مكان آخر من الخطاب: «العنوان على غلاف فورين أفيرز Foreign Affairs الحالي يقول: الشرق الأوسط يكمل المسير في البحث عن نظام ما بعد أميركي. بدأت الولايات المتحدة تدريجياً بتقليص وجودها في الشرق الأوسط، وأناس كثر كانوا ينتقدون التدخلات الأميركية العسكرية. أنا نفسي كنت جزءاً من تظاهرة عندما ذهبت أميركا الى العراق عام 2003. لقد اتخذت النرويج وقتها الخيار الصحيح. ولكن في الوقت ذاته، ومن منظور اليوم، هل من الممكن انتقاد حقيقة أن انسحاب الأميركيين لاحقاً كان أسرع ممّا يجب. لقد رأينا ما حصل. لقد خلق ذلك فراغاً، وبيئة لتكاثر جماعات الإرهاب الإسلامي. وهو تهديد جديد للأمن الأوروبي… في الوقت الذي تخفض فيه أميركا من وجودها في المنطقة تترك فراغاً، ولكن من سيملأه؟ لا يبدو أن الدول الأوروبية لديها الإرادة للقيام بالدور. الصين وروسيا استغلّتا الدينامية الجديدة في المنطقة، بل أكثر من ذلك دول المنطقة لديها طموحات لأداء أدوار قيادية أقوى». وفي قلب هذا الخطاب الطويل جداً، يضمّن الرجل دوافع وسياسات تدخلات بلاده الإنسانية والإغاثية وأعمال فض النزاعات وقنوات الاتصال الخلفية في عمليات السلام في كل ساحاتنا المشتعلة من ليبيا الى سوريا واليمن وفلسطين وغيرها… وعليه، يبدو أن تأمين المصالح التجارية البحرية للنرويج أحد أهم الدوافع للتدخل في منطقتنا تحت كنف الأميركي ولملء الفراغ من بعده.

مصالح باطن الأرض
أما الركيزة الأخرى للاقتصاد النرويجي فهي النفط، وهذه الأخيرة بدأت مع اكتشاف احتياطيات النفط نهاية ستينيات القرن الماضي. وفي ما يخص النفط، النرويج لا تستخرج النفط والغاز ضمن حدودها فقط، بل لشركاتها مصالح عابرة للقارات وخصوصاً في دول الجنوب، ولهذا الغرض أنشأت المنظمة النرويجية للتنمية والتعاون NORAD شبكة ممتدة من الجمعيات ومراكز الدراسات ومنظمات المجتمع المدني التي تروج لسياسات نفطية في مصلحة النرويج في البلدان المستهدفة (NRGI وLOGI على رأس هذه المنظمات في لبنان) كما حصل في حالات سريلانكا وميانمار. في الأولى، استخدمت جماعة نمور التاميل الإرهابية ودعمها لها للحصول على تنازلات من قبل الحكومة السريلانكية (نمور التاميل منظمة مارست التطهير العرقي في الساحل الشمالي للجزيرة وتلقى مؤسسوها الأوائل تدريباتهم في قاعدة سرية لوكالة الاستخبارات المركزية CIA قرب الحدود الهندية الصينية سمّيت Establishment 22). أما في ميانمار، فقد احتضنت معارضة البلاد في أراضيها (راديو بورما الحرة كان يذاع من أوسلو)، وعند وصول المعارضة الى الحكم منحت الرئيسة الجديدة جائزة نوبل للسلام ومنحت شركة ستات أويل النرويجية المملوكة من الدولة صفقات تنقيب، وذلك طبعاً خلال حل النزاعات الأهلية التي انخرطت فيها الحكومة الجديدة. وقد باعت النرويج حصصها بعد الانقلاب العسكري الذي تعارضه واشنطن. 
وفي السودان، تعدّ النرويج من أهم الأذرع الأميركية في مأساة دارفور وجنوب السودان. وخطوط الصراع في السودان تبرَّر على أنها خطوط عرقية وطائفية، بينما هي في الحقيقة خطوط نفطية. وكانت النرويج لاعباً مهماً في تقسيم البلاد خلال مفاوضات السلام، ولم يقتصر دورها على التلاعب بأطراف الصراع المحليين أو حتى الإقليميين، مثل مصر التي قامت النرويج بطمأنتها مراراً الى أن محادثات السلام لن تذهب الى خيارات التقسيم بأي شكل من الأشكال. وبالنسبة إلى اللاعبين الدوليين، لعبت النرويج لعبة متقنة. فقد أقامت شبكة من المنظمات الكنسية والإنسانية تحت مظلة باسم «إيكوس: التحالف الأوروبي للنفط في السودان» (مركزها النرويج وهولندا) على ما تدّعي أنه توثيق لجرائم الحرب في السودان وعلاقتها مع شركات النفط. الهدف النهائي منها كان إخراج شركة LUNDIN السويدية من البلاد عبر اتهامها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وفي النهاية رضخت الشركة فعلاً العام الماضي وباعت حصتها لشركة AkerBP النرويجية بقيمة 14 مليار دولار دون دفع أي تعويضات لضحايا الجرائم التي يفترض أن هذه الشركات ارتكبتها. وعين النرويج اليوم على عمالقة آخرين يستثمرون في النفط السوداني (الصينيون والماليزيون) وهي تستخدم معهم التكتيك ذاته.
أما في العراق فقد استعانت النرويج بسياسيين أميركيين لتأمين صفقة مع الكرد لضمان حصص لشركة نفط نرويجية مقابل العمل على فدرلة البلاد ليضمن الكرد سيطرتهم الكاملة على المناطق الغنية بالنفط.  

مصالح العرض والطلب
لدى النرويج حافز لتنويع اقتصادها ودعم قطاعاتها الصناعية والإنتاجية، ولكونها دولة صغيرة بسوق محدودة فهي بحاجة إلى التوسع في أسواق العالم الثالث. هناك حالات لانتقال دبلوماسيين ورعاة عمليات سلام نرويجيين في هذه البلدان، من مواقعهم كسفراء أو مسؤولين عن مفاوضات سلام فجأة إلى مديري شركات بنية تحتية من اتصالات أو طاقة تستثمر في البلدان المستهدفة. حتى عندما يتعلق الأمر بالأونروا، كانت النرويج دائماً تحاول تسويق منتجاتها وبضائعها وضمان الأرباح والعملة الصعبة.
خلال عملها في مفاوضات السلام في سريلانكا، قامت المنظمة النرويجية للتنمية والتعاون NORAD بإصدار تقرير ظهر فيه مدى الاهتمام النرويجي بالاستثمار في الجزيرة مقابل اهتمامها الحقيقي بعملية السلام. يتعمق التقرير في قضايا استثمارية تتعلق بقطاع الطاقة وخصخصة البنية التحتية وقوانين الأراضي والعقارات، حتى قوانين العمل والقوى والنقابات العمالية، بالإضافة الى الثروات السمكية التي تمّ رصدها وتقييم فرص استثمارها وتحقيق «التنمية الاقتصادية» لها من خلال المنظمات غير الحكومية والقطاع الخاص.
بالمجمل، انتقلت النرويج من دولة تتدخل خدمة للأميركيين بشكل خالص أملاً بنيل المكاسب في مكان آخر، إلى دولة تضمن تحقيق أرباح مباشرة من تدخلاتها التي تخدم الأميركيين. مثلاً، بحسب الباحثة أسوكا باندراج، اعترفت الخارجية النرويجية بأن الأرباح المنقولة من أفريقيا تفوق بكل سهولة المساعدات المرسلة إليها. وهكذا تضمن التدخلات الإنسانية وعمليات السلام النرويجية تأمين مكانتها الدولية عبر التدخل أينما يحتاج إليها الأميركيون، وبتأمين المكانة تفتح الأبواب لتأمين مصالحها الكبرى مثل الملاحة، أو الوصول الى حصة من موارد وثروات الدول المستهدفة من تعدين ونفط وأراض وأسماك. وكذلك الأمر في ما يخص التصدير. فالنرويج تقوم بتيسير الأسواق لمنتجاتها الثمينة (ومنها سمك السلمون) إما عبر صفقات مع المنظمات الدولية مقابل التبرعات، أو كردّ جميل من الدول الغربية مقابل تدخلاتها… وبهذا المعنى فقط يكون مصداق عبارة «القوة الإنسانية العظمى».