تنشغل دول العالم الأول والثاني والثالث، اليوم بمتابعة الانعطافة الأوكرانية – الروسية الجديدة، وتغرق في تفاصيل التفتيش عن مسلّمات وتأمينها، وهي التي كانت الى ما قبل الأزمة الروسية الأوكرانية من البديهيات، كالقمح وزيت الذرة والمازوت والغاز والكهرباء والتدفئة. وهذا هو العصب السياسي الحقيقي للمداولات الجارية في اهتمامات ولقاءات دولية. ما يعني لبنان أنه في وقت تهتم فيه عواصم العالم بالبحث عن حلول لأزمات بدا لسنوات أنها لم تعد ذات أهمية، يأتي من يحثّه على لملمة أوضاعه مبكراً، حتى لا يضيف معضلات إضافية إلى مشاكله، في وقت ينصرف فيه الجميع عنه.لم يكن البيان الثلاثي الصادر من نيويورك، بمندرجاته المتعلقة بالانتخابات وتطبيق الطائف والقرارات الدولية، منعزلاً عن المسار الذي اتخذته زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرياض وزيارة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان لباريس، وأخيراً اللقاءات الفرنسية السعودية، وجولة السفير السعودي في بيروت وليد البخاري. فردة الفعل لا تزال نفسها حيال الوضع اللبناني، وزاد عليها مظلّة أميركية لدور فرنسي بدا في الآونة الأخيرة منسحباً خطوات الى الوراء، بعد الخطوط المفتوحة مع حزب الله، لم تنظر إليها واشنطن بعين الرضى، ومؤكداً المعطيات السابقة عن وقوف فرنسا وراء السعودية في تعاطيها في الملف اللبناني. لكن الأزمة الأوكرانية وتطورات العراق زادت من عناصر القلق الغربي والإقليمي، وجعلت الملف اللبناني يقع ضمن دائرة الخطر. فالنصائح لا تزال تعطى للبنان كما حصل قبل الانتخابات النيابية، بضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية وعلى الطريق تشكيل حكومة، وليس الاستعاضة عن رئاسة الجمهورية بخطوات تطبيعية. وهذا الكلام الذي قيل علناً في نيويورك هو نفسه الذي نقل من باريس الى بيروت في أكثر من لقاء واتصال دبلوماسي. وما حصل قبل الانتخابات النيابية من كثافة الضغوط لإجرائها، يتكرر حالياً، رغم الفارق بين الاستحقاقين. لكن جوهر العملية هو واحد بالنسبة الى الدول المعنية التي تراقب بيروت عن كثب. فلبنان واقع موضوعياً تحت رزمة مشكلات مستعصية، ويحتاج الى مساعدة هذه الدول للنفاد منها، سواء في ما يتعلق بترسيم الحدود، أو نقل الغاز أو مفاوضات صندوق النقد، وغيرها من الملفات الشائكة. ويحتاج داخلياً كذلك الى مرحلة تهدئة، للانصراف الى معالجة أوضاعه الحياتية اليومية. ولا يعني انتخاب رئيس للجمهورية أن كل هذه الأزمات ستحلّ في وقت سريع، لكن على الأقل لن تضاف مشكلة جديدة إلى ما هو قائم، وسيخفّ ما هو متوقع من صدامات داخلية وتعود بعض الحياة الى الوضع الداخلي.
ورغم أن الضغط الخارجي لا يتخطى دعم تشكيل حكومة من ناحية المبدأ، إلا أنه يتعاطى مع محاولات التأليف المستجدة وخطواتها السريعة، على أنها اعتراف ضمني في الأيام الأخيرة قبل انتهاء العهد، بأن لا انتخابات رئاسية. وهذا التسليم يزيد من الإرباكات التي يولّدها احتمال أن تمتد طويلاً مرحلة الفراغ هذه المرة في ضوء أزمات المنطقة والعالم، التي لا يتكهّن أحد بإمكان معالجتها قريباً. وبقدر ما تشكّل الحكومة أهمية، وتستعجل القوى الداخلية لإخراجها الى الضوء، يبتعد خيار انتخاب رئيس الجمهورية. وهذا عنصر مقلق، لأن الاستحقاقات لا تتمّ وفق روزنامة طبيعية، بل ضمن كباش سياسي داخلي ومواعيد داهمة.
بقدر ما تشكّل الحكومة أهمية وتستعجل القوى الداخلية إخراجها إلى الضوء يبتعد خيار انتخاب رئيس الجمهورية


واستطراداً، فإنّ ترجمة الرسائل الغربية منوطة بطرفين هما: حزب الله والمعارضون. حزب الله بدا في أكثر اللحظات دقة يوجّه رسائل نحو رئيس يتم التوافق عليه، لأول مرة من دون الذهاب الى مرشح طرف على غرار ما حصل منذ انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان. وتزامن انفراجات ملف ترسيم الحدود وإعطاء الضوء الأخضر لتشكيل حكومة يمكن أن يكونا عنصرين مساعدين، على طريق اتجاه الحزب الى استكمال تطبيع الوضع الداخلي وعينه على أكثر من نقطة ساخنة في المنطقة. والضغط الدولي الثلاثي، رغم اعتراض الحزب العلني عليه كـ»تدخلات خارجية»، قد يجد منفذاً له عبر باريس ورسائلها الى الحزب، في تقاطع حول احتمالات إنقاذ الاستحقاق بأقل الأضرار.
أما المعارضون فهم على خلاف جذري في مقاربة الاستحقاق، من حيث الرؤية والدور والاسم، والتعاطي مع البيان الثلاثي والمبادرات الخارجية من السعودية الى واشنطن وباريس بالقدر نفسه من المراعاة والاهتمام وحتى التأييد. وهذا من شأنه أن يعيق التقدم نحو منطقة حوار فاعلة حتى في ما بينها، قبل الذهاب نحو الحزب وحلفائه لصياغة مبادرة توافق على اسم رئيس يمكن للمجتمع الدولي مباركته. لكن الوقت لم يعد متاحاً لهؤلاء في استمرار اللعب على حافة خطوات قد تساهم في الذهاب نحو خيارات متناقضة، ما يؤخر التفاهمات المحلية، فيما المجتمع الدولي ضاغط بجدية لتسريع الخطوات الآيلة الى انتخاب رئيس جديد.