منذ اليوم الأوّل للأزمة الاقتصادية، نام القضاء إلى جانب الحائط وقال «يا رب السترة». بعض القضاء كان متواطئاً وبعضهم الآخر ليس بيده حيلة. لذلك، آثر المودعون أن يُحصّل كل منهم حقه بـ«دراعه» بدل اللجوء إلى قضاء لن يُقدّم أو يؤخّر. وإلا، لو أن القضاء قام بواجباته، لما احتكم المودعون إلى «شريعة الغاب» واقتحم كل منهم مصرفاً بمن فيه.لا دليل ملموساً على أن «لوبي المصارف» يتحكّم برقبة السلطة القضائية، لكن كل ما يجري يؤكد ذلك. وإلا، لماذا انقلبت كلّ الدعاوى التي رُفعت على أحد المصارف ليصبح كل المدّعين مدّعى عليهم؟ وما الذي يمكن أن يُقدم عليه أحد القضاة البارزين ضد «عمّه» (والد زوجته) الذي يُعد رأس حربة في جمعيّة المصارف؟ ولماذا بـ«ليلةٍ ما فيها ضو قمر» قرّرت دوائر التنفيذ عدم اختصاصها بصحة الإيداع وتحويلها إلى محاكم الأساس؟ ولماذا كان أحد القضاة يعتبر أن الشيك وسيلة إيفاء ويجب تسييله مباشرةً قبل أن يعود عن قراره؟ ولماذا رفض قضاء العجلة قبول دعاوى المودعين بحق المصارف؟ ولماذا لم تخجل السلطة القضائية من الاجتماع علناً مع «كارتيل المصارف،» في آذار 2020، والاتفاق معه على تشريع القيود التي فرضها وتجميد بعض القرارات التي لا تخدم مصالح المصارف، وذهبت إلى أبعد من ذلك بـ«الطرق على صدرها» لمنع أي دعوى تمسّ بـ«طهارة» المصرفيين؟ ولماذا لم يتم الادعاء على المصارف؟ ولماذا تهرّب القضاة من «كرة نار» استجواب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة؟ ولماذا «كُبّلت» النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون؟ لماذا لم يتم استجواب متورط واحد ولم يُوقف أي من «آكلي» الأموال العامّة؟ ولماذا نقضت محاكم الاستئناف غالبيّة القرارات الصادرة عن محاكم البداية لصالح المودعين، ونفّذت في المقابل القرارات الصادرة عن المحاكم الأجنبيّة؟ والأهم، لماذا تنظر المصارف إلى القرارات القضائيّة الصادرة عن المحاكم اللبنانية بمنطق «متل إجري» فلم تنفّذ أي قرار صادر عن القضاء اللبناني حتى تلك التي هُرّبت من محكمة التنفيذ، فيما خافت على أصولها في الخارج ونفّذت الأحكام الصادرة عن المحاكم الأجنبيّة ولا سيّما بريطانيا التي عملت بمبدأ تنازع القوانين، أي الاستناد في أحكامها على نسخة عن القانون اللبناني مترجماً؟
كلّ هذه الأسئلة تُثبت أن السلطة السياسية و«كارتيل المصارف» يغرزون أيديهم داخل «العدليات» بوقاحة، ولا مقدرة لقضاة محاكم البداية على «مقاومة المخرز» باعتبار أن غالبيّة القرارات التي صُدّرت من محاكمهم بقيت عالقة في أدراج محاكم الاستئناف والتمييز وتم نقضها. أكبر دليل على ذلك ما فعلته رئيسة دائرة التنفيذ في بيروت القاضية مريانا عناني التي حاولت إنصاف المودعين. «الريّسة» حاربت المصارف على المكشوف وأصدرت حكماً تلو آخر بإلزامها تسييل الشيكات فوراً، وقرارات أُخرى بحجز قيمة وديعة من الاحتياط الإلزامي لدى مصرف لبنان، وقراراً بالحجز على الأموال الشخصيّة لسلامة. ومثل عناني فعل أيضاً رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي فيصل مكي وقاضي الأمور المستعجلة في بيروت هالة نجا.
لماذا نقضت محاكم الاستئناف غالبيّة القرارات الصادرة عن محاكم البداية لصالح المودعين؟


مع ذلك، كلّ القرارات الصادرة عن دوائر التنفيذ كان يتم الالتفاف عليها «من فوق» لتكون نهايتها الطمر. السبب، بكل بساطة، أن قضاة الملاحقة، أي القضاة الكبار، مُعيّنون «على الطبليّة». لا تُصدر التشكيلات القضائية إلا إذا تم ربط هؤلاء بخيوط السلطة السياسية التي هي في الحقيقة ذات وجهين: سلطة سياسية و«لوبي مصرفي». لذلك، يتم تشويه القوانين المقدمة لاستقلالية السلطة القضائية حتى يبقى هؤلاء «مكموشين» من «القوة الخفيّة» وينفّذون أجندتها بإخلاص.
هذا أيضاً ما يقوله المحامي المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية وأجهزة الرقابة التابعة إليها المحامي باسكال ضاهر الذي كان قد تقدّم بمراجعة مع زميليه جيسيكا القصيفي وشربل شبير أفضت إلى إصدار مجلس شورى الدولة قراره الذي أوقف تنفيذ التعميم الرقم 151. وشدّد ضاهر على أن قرارات محاكم البداية إن كانت التنفيذ أو العجلة حمت المودعين، لكن ما جرى لاحقاً عرقل تنفيذها.
ولفت ضاهر إلى أنّ «ما أوصل الأمور إلى هنا هو تدخّل السلطة السياسية في عمل السلطة القضائية، وأبرزها أسر قرار مجلس شورى الدولة الذي قضى بإلزام رد الوديعة بعملتها ومنع هرطقات مصرف لبنان وتعميماته». وأضاف: «أبلغنا هذا القرار إلى المصرف المركزي. لكن اجتماعاً سياسياً - مالياً عقد في بعبدا هتك مبدأ استقلالية القضاء وتدخل بعملها».
بحسرةٍ يتذكّر ضاهر حينما عيّن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران القاضي روبير بادينتر رئيساً للمجلس الدستوري الفرنسي. حينها توجّه بادينتر إلى ميتران قائلاً: «سيدي الرئيس أشكرك على ثقتك في تعييني، ولكن اعلم أنه من الآن وصاعداً سأمارس عليك واجب العقوق والجحود». يقول ضاهر: «حبّذا لو يكون بادينتر بين قضاتنا اليوم»!