تعقيدات المشهد في المنطقة لا تعني أنه صعب الفهم. المفاجآت الميدانية الجارية في العراق فرضت نفسها بنداً رئيسياً. هي ليست خطوة في الفراغ، لكنها بالتأكيد ليست بالحجم الذي يوازي عملية التهويل الجارية من أطراف النزاع كافة.في سوريا، سير حثيث نحو تثبيت وقائع ميدانية ذات بعد سياسي، يسمح للنظام وحلفائه بالتنفس قليلاً، وتوقع تراجع في نجاحات الخصوم، لا تراجع في المحاولات. الرئيس السوري بشار الاسد وفريقه أمام مهمة تثبيت إفشال الجزء الأبرز من الحرب العسكرية، وأمام استحقاق فتح الباب أمام عملية سياسية تفتح الابواب أمام احتمال جدي لقيام مصالحة وطنية.

في جانب خصومه، الاحتمال الرائج هو أن تنظر المجموعات المسلحة الى ما يجري في العراق على أنه قوة دفع، تتيح لها إعادة تنظيم أمورها، والعودة من جديد الى خطط الهجوم. على الأغلب، سيندفع بعض هؤلاء الى اقتراح خطط على المشغلين في الخارج، وستكون مجموعات تنظيم «القاعدة»، بفرعه السوري، مضطرة إلى إعادة النظر في حسابات المعركة مع «داعش».
في العراق نفسه، سنكون أمام مشهد مختلف. ما قام به «داعش» مدعوماً من قبل حاضنة شعبية معتد بها، وتنسيق عملياتي مع مجموعات ترتبط بقيادات عسكرية من النظام السابق أو مع حزب البعث، أو مع أجهزة استخبارات سعودية وتركية وغيرهما، أدى عملياً الى قلب الطاولة. ربما نكون أمام مشهد سياسي لا يطابق تماماً نتائج الانتخابات النيابية الاخيرة. بمعنى أن الفريق الشيعي مضطر إلى التفاهم على تحالف سياسي ـــ شعبي، أو سيكون أمام خسائر كبيرة. والأكراد لا يمكنهم الركون الى تحقيق نجاحات بطريقة انتهازية، لأن المركز لن يكون لطيفاً معهم إن خذلوه، ولأن المجموعات المسلحة التي تقود التمرد، لا ترى فيهم حليفاً، بل خصماً إضافياً.

يتصرف خصوم إيران وسوريا وحزب الله على قاعدة أن أحداث العراق تسمح بالعودة الى الجنون


وفي الأمكنة المجاورة، تقف إيران أمام استحقاق إعادة تنظيم المشهد العراقي وما يتصل به سورياً ولبنانياً وفلسطينياً وخليجياً. وهو أمر سوف يعزز دور طهران. لكن لا وجود لمؤشرات تدل على حاجة إيران الى الحضور المباشر، إلا إذا ارتكب خصومها حماقات، بعضها سياسي وبعضها رمزي يتصل بحملة عسكرية أو ما شابه ضد المواقع الدينية المقدسة لدى الشيعة.
أما السعودية، فيبدو أنها تقترب من لحظة الجنون القصوى. فيها فريق يتصرف على أساس أنها معركة وجود. وهذا الفريق لا يتوقف عن البحث عن كل ما يعتقد أنه متعب للجبهة المقابلة. وحالة الاهتراء القائمة على مستوى الحكم فيها سوف تعزز هوامش الأطراف ومراكز القوى وتأثيرات الخارج، وسنكون أمام جولة جديدة من الأخطاء.
تبقى تركيا، حيث تُظهِر تعليقات مسؤولين فيها، كما تعليقات صادرة عن أقطاب من حركة «الإخوان المسلمين»، في أكثر من منطقة عربية، أنه لم يحصل أي نقاش أو مراجعة لكل ما حصل في السابق. والمنطق الاستعلائي والمتسم باللاعقلانية سيجعل من تركيا وتيار «الإخوان المسلمين» منصة تتّكل عليها كل القوى المناوئة للحكم في العراق وسوريا وإيران. وهو الأمر الأكثر مدعاة للقلق، لأن فيه ما يقفل الابواب أمام احتمال مصالحة سياسية على خلفية دينية، وهو ما سيفتح الأبواب من المحيط الى الخليج للعبة دموية مجنونة تكون فلسطين أولى ضحاياها!
أما في لبنان، فنحن أمام لعبة انتظار مملة، لكن قواعدها مضبوطة، من الملف الرئاسي الى الملف الامني الى الملف الاقتصادي الاجتماعي. والسؤال السائد على مستوى الجمهور، لا يتعلق فقط بما سوف يقوم به حزب الله، بل باحتمال عودة التوتر جراء تصرف البعض على أساس أن ما حصل في العراق يمثل نقطة ضد الخصم.
في ملف الرئاسة، تتعزز حظوظ المواجهة. الحل واضح. إما تسوية من تحت، تقوم على تنازلات تقود الى الإتيان برئيس أضعف من الذي انتهت ولايته من دون أسف، وإما تسوية من فوق، تقوم على توازنات دقيقة، تتيح خلق دينامية جديدة في المشهد الداخلي اللبناني، ويكون عنوانها تسليم فريق المستقبل بأن مصلحته الحقيقية تكمن في إدخال تعديلات جوهرية على تحالفاته. سوف يخسر هنا شيئاً، لكنه سوف يربح هناك أشياء.
وإذا كان التوتر غائباً عن الخطاب السياسي، فهذا يساعد في تمضية شهور الصيف مع مزيد من الترفيه. لكن الخرق الخطير قد يأتي على أيدي مجموعات تعتقد أنه واجب عليها العودة الى مشاغلة حزب الله لبنانياً. وهذه اللعبة لا تقيم وزناً لكتبة أو خطباء، من الذين يعرضون خدمات التحليل والتوقع ربطاً بـ«إنجازات داعش»، من دون أن ينسوا اتهام سوريا وإيران بالوقوف خلف هذا التنظيم.
ورغم أن التوافق على الخطط الأمنية لا يزال في حالة جيدة، فإن صيانته تستدعي التقدم به خطوة صوب ضرب معاقل يمكن استخدامها لأجل غرض التفجير الامني. وتحذر أوساط أمنية رسمية من مؤشرات سلبية لبعض الانشطة والخطوات القائمة في طرابلس وبعض مناطق الشمال، وأخرى على الحدود مع سوريا وفي عمق البقاع أيضاً. وأي تحرك وقائي من جانب الجيش، يحتاج الى توسيع الغطاء السياسي للجيش اللبناني، ليقوم بأعمال يقدر عليها، لكنه لن يبادر إليها قبل أن يحظي بدعم سياسي. وهو دعم تجب المبادرة اليه، ولو تأخرت أكثر الإشارات المنتظرة حول واقع ومستقبل العلاقات الإيرانية – السعودية!