عام 2012، بعد شهور على بدء الأحداث السورية، تداعى عدد من رجال الدين في لبنان، جلّهم من السلفيين والإخوان المسلمين، إلى إطلاق ما عُرِفَ لاحقاً باسم «هيئة العلماء المسلمين في لبنان». استغلّ هؤلاء، يومها، الخلاف بين تيار المستقبل والمفتي السابق للجمهورية محمد رشيد قباني، واستقطبوا مشايخ سلفيين وآخرين من الإخوان حديثي التخرّج من المعاهد الإسلامية (خصوصاً من أزهر البقاع وأزهر بيروت) وأئمة مساجد في مناطق نائية ممن تمنحهم دار الفتوى رواتب متدنّية (400 ألف ليرة شهرياً).هكذا، تمكّنت الهيئة الجديدة من جمع عدد لا بأس به من المشايخ. وشكّل التعاطف مع «الثورة السورية» الذي ساد «الأوساط السُّنّيَّة» في لبنان، رافعة لخطة عمل قادها الشيخان البارزان في الهيئة، سالم الرافعي وحسن قاطرجي. فانطلقت المهرجانات الداعمة لـ«الثورة» واستقطبت الشباب المتحمّس من الطيف الإسلامي.
بحثاً عن الدعم المادي، توجّهت الهيئة إلى جمعيات إسلامية خيرية حوّلت دعمها إلى ناشطي «الثورة السورية». واستفادت من علاقات التيار الإخواني فيها مع قطر، فتدفّقت الأموال من الدوحة، واستُخدمت في بناء مدارس ومستوصفات، سُجِّلَت باسم جمعيات يملكها مشايخ الهيئة المؤسّسون.
تزامن هذا النشاط مع بروز حالة الشيخ أحمد الأسير في صيدا عام 2011. شكّل هذا الأخير تحدياً أمام الهيئة التي بذل قادتها محاولات لم تنجح لإقناعه بالعمل تحت عباءتها، فقرّرت احتواء حركة الأسير الذي لمع نجمه بدل التصادم معه. وبعدما أطاحت أحداث عبرا عام 2013 بالأسير، عملت الهيئة على محاولة استقطاب شبابه الذين التحق بعضهم بتنظيمات متشدّدة.
«عدم انضباط العناصر الشباب» في الهيئة واندفاعهم للمشاركة في القتال في سوريا شكّلا إرباكاً للهيئة، خصوصاً بعد اعتقال السلطات الأمنية اللبنانية الشيخين عمر الأطرش ولؤي الترك وملاحقة عدد آخر من المشايخ، وبعد تأكيدات أمنية من مراجع رفيعة عن تورّط أفراد ومشايخ في أعمال أمنية خطيرة في الداخل اللبناني. عندها، قرّر أعضاء «المجلس المصغّر» للهيئة الانتقال إلى مرحلة جديدة من العمل «تحت سقف القانون». ووفّر خطف مجموعات سورية مسلّحة مجموعة من الزوار الشيعة في ما عُرف بـ«مخطوفي أعزاز»، فرصة للهيئة لتلميع صورتها داخلياً، فعملت على التوسط من أجل إطلاقهم. لكنّ المشكلة عادت لتطلّ برأسها بعد سنوات عندما عاد بعض من التحقوا بالتنظيمات السورية المسلّحة إلى لبنان لتنفيذ أعمال أمنية في الداخل، فأُوقف عدد منهم، واتهم بعضهم الشيخ الرافعي، رئيس الهيئة حينها، بتحريضهم على القتال في سوريا.
شكّلت «غزوة عرسال» في 2 آب 2014 التي قامت بها مجموعات تابعة لتنظيمَي «داعش» و«جبهة النصرة» نقطة تحول. طالب رئيس الحكومة آنذاك، تمام سلام، الهيئة بالتوجه إلى البلدة البقاعية للتفاوض مع التكفيريين من أجل إطلاق العسكريين. تطوّع معظم المشايخ الأساسيين في الحركة للمشاركة في الوفد المفاوض. في الطريق إلى عرسال، استُهدف الموكب بإطلاق نار أدى إلى إصابة الرافعي في قدمه. أعطى ذلك دفعة معنوية هائلة للهيئة، وتحوّل الرافعي إلى رمز ديني على مساحة الوطن، ما شكّل له حصانة حالت لاحقاً دون توقيفه أو حتى استجوابه.
شكّل التعاطف مع «الثورة السورية» رافعة خطة عمل الهيئة بقيادة الرافعي وقاطرجي


بعد انسحاب «داعش» و«النصرة» من عرسال إلى جرودها، كلّفت الهيئة نفسها بالتفاوض لتحرير العسكريين المخطوفين، وتمكّنت من إعادة بعضهم أحياء، ومن استرداد جثث بعض الشهداء. وبعد تعقّد المفاوضات، قرّرت الهيئة الانسحاب بحجة أنها تريد تفويضاً رسمياً من الدولة، وهو ما لم يحدث.
إثر أحداث بحنين في الشمال، التي أسفرت عن استشهاد عسكريين وجرح آخرين بعد معارك وقعت في تشرين الأول 2014 بين الجيش و«مجموعة خالد حبلص» الذي لجأ إليه الأسير بعد ملاحقته في أحداث عبرا، تبيّن للأجهزة الأمنية أن الأسير الذي تلاحقه الأجهزة الأمنية نزل في ضيافة الشيخ الرافعي لوقت طويل.
صفعة جديدة تلقّتها الهيئة بعدما كشفت تحقيقات الأمن العام أن مفتي راشيا السابق الشيخ بسام الطراس، أحد اعضاء الهيئة، كان المحرّض الرئيس على تنفيذ تفجير كسارة (زحلة) في 31 آب 2016. بعد اعتقال الطراس، تداعت الهيئة إلى اجتماع فوري نتجت عنه تحركات واسعة على الأرض، واعتصام أمام دار الفتوى للضغط على المفتي للتوسط لإخلاء سبيله. إلا أن الأمن العام رفض إطلاقه لوجود أدلة قطعية على تورّطه. لكن كان للقضاء رأي آخر تحت وطأة الضغوط السياسية والدينية.
مع الوقت، خفت بريق الهيئة في الشارع السني بعدما غاب قادتها عن متابعة أحوال المعتقلين الذي تُرِكوا لمصيرهم داخل السجون، إضافة إلى اتهامات بالفساد المالي طاولت قيادات أساسية في الهيئة.