المرة الأولى التي استخدم فيها مفهوم «استراتيجيّة التوتر» للإشارة إلى سلسلةٍ من أعمال العنف والقتل، وإثارة التوترات الأمنية والاجتماعية، للنّيل من سمعة وهيبة طرفٍ سياسي محلي وإضعافه والحدّ من نفوذه وتأثيره، كان في إيطاليا مطلع سبعينيّات القرن الماضي. وقفت الاستخبارات الاميركية والجناح اليميني المتشدد في الدولة الايطالية وأجهزتها الأمنية، خلف هذه العمليات، والمستهدف كان الحزب الشيوعي الايطالي الذي تعاظم دوره والتأييد الشعبي الذي تمتّع به إلى درجةٍ خشِيَ معها خصومه من وصوله إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. إشاعة الذعر عبر القيام بتفجيرات عشوائية في أماكن عامة، كما حصل في مطعم «بيتزا فونتانا» في مدينة ميلانو في 1969، أو في محطّة قطار مدينة بولونيا في 1980، والعديد من عمليات الاغتيال والخطف في تلك الحقبة، لدفع الايطاليين إلى الالتفاف حول القوى اليمينيّة الدّاعية إلى فرض حال الطوارئ وتعزيز الطبيعة الاستبدادية للنظام. طبعاً، للاستخبارات الأميركية وحلفائها المحليّين في بقاعٍ مختلفة من العالم، خاصةً في بلدان الجنوب، سجلٌّ طويل في اعتماد تكتيكات وتقنيات زعزعة الاستقرار ضد حكومات أو قوى وطنية، تترافق مع عقوبات وضغوط اقتصادية وماليّة خارجية، وحملاتٍ تحريضيّة إعلامية - سياسيّة، كما حصل في إيران ضد حكومة الدكتور محمد مصدّق الوطنية مطلع خمسينيات القرن الماضي، وكذلك ضد حكومة سيلفادور ألليندي في بداية سبعينياته، تمهيداً للانقلابين اللذين أطاحا بهما. لم تتورّع الولايات المتحدة في فتراتٍ تالية عن توسيع مفهوم «استراتيجية التوتر» ليشمل استثمار التناقضات الطائفية و«الاثنية» وتسعيرها، كما فعلت في العراق قبل اجتياحه في 2003 وبعده، بـ«وحي» اسرائيلي واضح من خلال عصابة المحافظين الجدد، لتفتيت وحدة المجتمعات في المشرق العربي والقضاء على القوى المناهضة لهيمنتها. ومهما كانت المسميات، «استراتيجية توتر» أم «فوضى خلاقة»، فإن هذه السياسة متّبعة ضد حزب الله اليوم في لبنان، وهي انتقلت إلى طورٍ جديد منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، عبر اتهام المقاومة بالمسؤولية عما حلّ بالبلاد وتأجيج الصراعات الطائفية للنيل منها. غير أن الفارق الكبير بين ما يجري راهناً وما جرى في السابق، هو أن مهندس هذه السياسة، أي الولايات المتحدة، ليس في صدد إحكام سيطرته على لبنان، بينما يشرع في تخفيض «تورطه» في الشرق الأوسط، حسب المواقف المعلنة لجميع مسؤوليه. هو يشعل الحرائق نتيجةً لعجزه عن حسم المعارك التي بدأها لصالحه، لإلحاق القدر الأكبر من الخسائر بأعدائه، ومن دون الالتفات إلى المصير الأسود الذي ينتظر أدواته التنفيذية، أي القوى التي ارتضت أن تكون وقوداً لهذه الحرائق.
حرب الشائعات
أياً كانت الأسباب الفعلية لانفجار مرفأ بيروت، إهمالاً إجرامياً أو عملية تفجير متعمّدة، فإن القوى السياسية المعادية للمقاومة التي تضم إلى التشكيلات المافياوية الطائفية كتلاً معتبرة من جماعات الارتزاق «المدني»، رأت فيه فرصةً لرفع سقف هجومها على المقاومة وسلاحها، واتهامها بالمسؤولية المباشرة عنه، وعن الأزمة العامة التي تعصف بلبنان. حرب الشائعات التي انطلقت عبر أثير شبكة القنوات الفضائية ووسائل التواصل الرقمي، والتي روّجت لفرضيّاتٍ يتناساها البعض اليوم بفعل تفاهتها، من نوع أنّ العنبر رقم 12 كان مخزن سلاح لحزب الله، وأنّ أنفاقاً تربط مرفأ بيروت بالضاحية الجنوبية، أو أنّ عناصر من حزب الله اعتقلوا في ألمانيا لأنهم حاولوا شراء كمياتٍ كبيرة من نيترات الأمونيوم، ساهمت في تحريض قطاعات بعينها من اللبنانيين ضد المقاومة. للشائعات دورٌ كبير في استراتيجية التوتر. فقد أدّت الشائعات، التي اتضح أنها محض هراء في ما بعد، عن التقارب المتزايد بين الدكتور مصدق وحزب توده الشيوعي الايراني، وسماحه لعدد من عناصره بالتغلغل في مفاصل الدولة، إلى انقسام كبيرٍ في القاعدة المؤيّدة له، وانفضاض التيار الإسلامي العريض بقيادة آية الله كاشاني من حوله، مما سهّل الانقلاب عليه. أما في ايطاليا، وبعد تفجير مطعم «بيتزا فونتانا»، فقد اتهم اليسار الجذري بالوقوف خلف التفجير، واعتقل 400 مناضل ينتمون إلى تنظيماته المختلفة بينهم جيوسيبي بينيلي، المتهم الرئيس بتدبير الانفجار.
رأت القوى السياسية المعادية للمقاومة وجماعات الارتزاق «المدني» في انفجار المرفأ فرصةً لرفع سقف الهجوم على المقاومة وسلاحها

قتل بينيلي بعد بضعة أيام وزعمت السلطات أنّه رمى بنفسه من أحد طوابق السجن. في 2005، أي بعد 36 عاماً، أقرّت محكمة النقض الايطالية بأنّ المسؤول الحقيقي عن التفجير هو تنظيم «أورديني نيوفو» اليميني المتطرف، والوثيق الصلة بشبكة «غلاديو» (السيف بالايطالية) التي أنشأتها المخابرات الاميركية والبريطانية، بالتعاون مع الاستخبارات الايطالية ومجموعات كبيرة من السياسيين في هذا البلد بعد الحرب العالمية الثانية، لمقاومة «التمدّد الشيوعي». وكان الإرهابي اليميني المتطرف فينشينزو فينشيغيرا قد اعترف أمام القاضي فليتشي كاسون في ثمانينيّات القرن الماضي بأن هذا التفجير هدف إلى تسريع إعلان حالة الطوارئ منعاً لوصول الشيوعيّين إلى السلطة عبر الانتخابات. وقد أثبتت العديد من الوثائق الرسمية التي تم الإفراج عنها، وكذلك اعترافات لمسؤولين أمنيين وسياسيين، عن إشراف «غلاديو» على العديد من عمليات العنف والقتل خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتوجيه سهام الاتهام نحو اليسار الجذري بالوقوف خلفها، لتمكين العناصر اليمينية المتشددة من تعزيز سيطرتها على الدولة ومؤسساتها. الشائعات تحتل حيزاً مركزياً في الحرب الإعلامية - النفسية التي تشن على المقاومة في لبنان حالياً، وتشارك فيها أطراف مختلفة، كموقع ميغافون «اليساري» مثلاً، الذي تبنّى رواية قيام المقاومة بإطلاق الصواريخ من داخل بلدة شويا رغم اتضاح عدم صحتها بعد نشر المقاومة لفيلم يظهر إطلاق الصواريخ من منطقة حرجيّة بعيدة عن البلدة. «ميغافون»، أي مكبّر صوت، بكل تأكيد. لكن لمن؟

تحويل التناقضات إلى فتن
الانقسام الداخلي المتعاظم في لبنان، بفعل استفحال الأزمة العامة للنظام الطائفي النيو ليبرالي، ودخول مؤسساته في طور الاضمحلال التدريجي، وغياب كتلة اجتماعية تاريخية قادرة على فرض تغيير جذري، جميعها عوامل توفّر أرضيةً خصبةً لإستراتيجية التوتر. الشحن والتحريض على حزب الله وسلاحه، الذي ارتقى إلى مستوى أعلى بعد انفجار المرفأ كما أسلفنا، بات يترجم كمائن متنقّلة تهدف إلى تحويل مناطق بعينها، حسّاسة بسبب موقعها الجغرافي، كخلدة أو شويا للمثال لا الحصر، إلى بؤرٍ للتوتّر ضد المقاومة، بهدف إرباكها والتضييق على حركتها. وجاء تصوير ما جرى، خاصة على بعض المواقع، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، على أنه «هبّة ضد سلاح حزب الله»، لتشجيع قوى أخرى على القيام بالأمر عينه. هناك مسعى بيّن لحرف الغضب العارم، المحقّ والمشروع، الذي يعتمل في صدور الناس عن وجهته الصحيحة، أي الطبقة السياسية التي حكمت لبنان منذ عقود، وتحويله ضد المقاومة، وتوظيف الحزازيات الطائفية لتحقيق هذه الغاية. في تشيلي، موّلت المخابرات الاميركية إضراب سائقي الشاحنات واستغلت إضرابات واحتجاجات عمال المناجم، ضد بطء الإصلاحات التي وعد بها الرئيس سلفادور ألليندي، واستخدمتها في إطار استراتيجيتها الأشمل لزعزعة الاستقرار لتهيئة الظروف المناسبة لانقلاب بينوشيه. ولا ضير في مثل هذه السياقات من استغلال المزايدات «اليسارية» لتقسيم الحاضنة الاجتماعية للعدو الرئيسي المستهدف. الخطوط العامة لدليل عمل «استراتيجية التوتر» واضحة: افتعال أعمال عنف أو استغلال أزمات بنيوية متفاقمة للشروع بحملات إعلامية - سياسية تحريضية، ترتكز أساساً إلى ترويج الشائعات، لحرف الغضب الشعبي عن وجهته ضد الفئات المسيطرة وتحويله باتجاه الأعداء المستهدفين من قبل الولايات المتحدة وأدواتها المحليّين. مهّدت هذه الاستراتيجية للانقلاب ضد مصدّق في إيران، وضد ألليندي في تشيلي، وحالت دون وصول الشيوعيين إلى السلطة في ايطاليا في السبعينيات، ورسخت الهيمنة الاميركية على هذه البلدان. غير أن السياق اليوم مختلف تماماً. واشنطن أعادت جدولة أولوياتها على قاعدة التركيز على التحدي الصيني، وهي أيقنت أنها لن تستطيع الفوز في ساحات كسوريا ولبنان وبات المنطق الذي يحكم سياستها، منذ عهد ترامب، هو تحويل انتصار الأعداء، المحليّين والاقليميّين والدوليّين، إلى انتصار «مرّ»، وإغراقهم بالفوضى والحرائق. هو منطق تخريبي لقوة هرمة ومتراجعة لا تتورّع عن افتعال الأزمات انتقاماً من الذين ألحقوا بها الهزيمة. جميعنا يذكر كيف أشعلت بريطانيا فتيل الفتنة بين المسلمين والهندوس في الهند، أفضت إلى تقسيمها، عندما أجبرت على الجلاء عن هذا البلد. من ينجرّ من اللبنانيين ببلاهة منقطعة النظير خلف دعاة الفتنة عليه أن يدرك أن راعيه الأكبر، أي أميركا، لن تحرّك ساكناً لأجله، وأنه سيُترك وحيداً لمواجهة الخراب والكوارث وبئس المصير.