يوماً بعد يوم يتأقلم لبنان مع تداعيات سياساته الاقتصادية ويتقبّل أن هذه السياسات والنمط الاقتصادي المتّبع أفلسا دولة المصارف، وإن لا يزال مالكو الوطن والمصارف ينكرون هذا الواقع ويتقاذفون التهم والتهرّب من المسؤولية. وبما أن البعض ينتظر منقذاً يعيد البلد إلى الزمن الجميل، دعونا ندحض هذه الأسطورة التي لن تحصل ولم تحدث من قبل. ركب رفيق الحريري كراتين الإعاشة في ثمانينيات الحرب ليحطّ في بيروت منقذاً نيوليبرالياً. بعد الطائف وفّق الحريري ورعاته الإقليميون بين أمراء حرب لبنان وملّاك ما قبلها بتوزيع المشاريع على طرف وفوائد القروض على الآخر محتفظاً بحصة لنفسه من الطرفين، وطبعاً لم يكن ذلك ليمر لولا مباركة خدّام دمشق وكنعان عنجر (وهو غير كنعان حزب المصرف) اللذين كانا مَحَجَّتين لأرتال من أزلام (أو أذلال لا فرق) سلالات سياسية لبنانية باتوا «ثواراً» في ما بعد…مرتين. إذاً، بعد توزيع كراتين الإعاشة على الفقراء، وزّع رفيق الحريري إعاشات لشراء الساسة والمصرفيين وتكريس النمط الاقتصادي الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.لكن ألم يعارض أحد ذلك؟ طبعاً كان هناك يسار معارض ضعيف نسبياً، بتنا نحلم بوجود يسارٍ بربع قوته اليوم، وجنرال منفيّ أصبح رئيساً اليوم. فكّكت القوى الحاكمة الأوّل وتجاهلت الثاني الذي تمكّن من إنشاء حالةٍ مكّنته من تحقيق مقولة «عون راجع». تفكيك اليسار كان على مراحل. إذ تسلّمت حركة المحرومين ورئيسها جبهة النقابات حين كان لا يزال بإمكانها ادّعاء الحرمان، بمساعدة بيك الاشتراكية بطبيعة الحال، وتم توزيع أموال إعاشات على الطبقة الوسطى من خلال دعم ليرتهم لجعلهم يتخيّلون بحبوحة وهمية لا داعي فيها للهلع من إفلاسٍ لن يأتي ولا يُذكر إعلامياً قط (لم تكن جريدة اليسار الغوغائي موجودة في حينها). وزّع الحريري ومهندسه المالي رياض سلامة صناديق الإعاشة على اللبنانيين من مالهم لرهن مستقبلهم، وكان كلما واجه معارضةً يتلطّى خلف فؤاد السنيورة (لأنّه كان منافقاً وجباناً)، وكان السنيورة يتقبّل دوره هذا (لأنه كان ولا يزال فؤاد السنيورة). طبعاً سرعان ما أفلس لبنان، لكن للبنان أصدقاء يحبّونه لسبب ما، ربما لأنه وطن الحياد، وتكرّموا عليه بهبات وديون. تدفّقت كراتين باريس واحد وباريس اثنين وباريس ثلاثة إعاشةً لطبقة لبنان الحاكمة والخاضعة لتبقى حاكمةً في لبنان وخاضعةً لأصدقاء لبنان.

بحبّك يا لبنان
يُفاجأ من اعتاد على الإعاشة بعد الإفلاس لماذا لا يهرع الأصدقاء اليوم لإنقاذه مرّة أخرى، وبدأ يهلع من المظاهر المتسارعة لانهيار منظومته المفلسة. لكنّ السؤال الذي يجب على هؤلاء الإجابة عنه هو: لماذا كانوا يحبونكم من قبل؟ كيف كنتم تخدمونهم ليغدقوا عليكم بإعاشاتٍ منحتكم طائرات خاصة ويخوتاً؟ وما الذي كان يخيفهم من سقوطكم؟
يقول الفيلسوف الأناركي الروسي ميخائيل باكونين: «حذار من الدول الصغيرة» فهي ضحية الدول الأكبر، لكنها في الوقت عينه تشكّل خطراً عليها، إذ أنه من الأسهل لهذه الدول أن تكون محرّكاً للتغيير. وقد اختار الصحافي البريطاني ديفيد هيرست تحديداً هذه الجملة لباكونين لتكون عنوان كتابه عن لبنان الذي أصدره بعد قضائه قرابة نصف قرن في بيروت.
لم يكن سبب غرام أصدقاء لبنان به وبمصرفييه تذاكيهم وابتزازاتهم، بل عمالتهم ودورهم في خدمة المنظومة الاقتصادية المهيمنة عالمياً، والخوف من صعود مثال يشكّك بإله الرأسمال المعولم الواحد. فلبنان صغيرٌ بما يكفي ليخرج عن المنظومة التي لا تحتاج سوقه الصغيرة لكي تراكم الأرباح، لكنه قد يوحي للآخرين الأكثر أهمية بالسّير في خطاه، وكلفة تقويضه صغيرة نسبياً. وهذا من دون الدخول في فالق صراع تحرير فلسطين، فموضوعنا اليوم كراتين الإعاشة فقط. ولن نُقحم «إسرائيل» هنا، ولنتظاهر أنّها ليست موجودة أصلاً كما يحلو لدعاة الحياد مع الدولة الأوهن من بيت العنكبوت اليوم أكثر من أي وقت مضى، والتي وصفها هيرست في كتابه بأنها مثالٌ «أكثر اعتباطيّة للغطرسة الإمبريالية المتقدّمة، والنزوات الجيوسياسية، والأعمال الإنسانية المضلّلة بخُبث» من المثال اللبناني.
كرتونة الإعاشة بالحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاج إليها الفرد ليعيش هي حق أساسيٌّ من حقوق الإنسان


بالفعل كانت كلفة تقويض لبنان صغيرة نسبياً إذا ما قارنّا حجم كراتين ثلاثية باريس الإعاشية بما يحتاج إليه اليوم لبنان المصارف لتعويم نظامه الذي قد يكون استنفد منفعته. طبعاً سينكرون الإفلاس، فهناك من أحياهم حين كانوا موتى من قبل. لكنّ جزرة الإغراء باتت مكلفة أكثر مما يستحق الحمير القائمون على النظام. وهنا لا بد من اللجوء إلى العصا لمن عصى. والعصا أنواع، فمنها ما يُستخدم للضرب المباشر على الرأس، ومنها ما يوضع في العجلة الاقتصادية لعرقلتها فلا تسير لا يميناً ولا يساراً ولا غرباً ولا شرقاً، وأخرى توجّه نحو الأمعاء وتهدّدك بالجوع.

الأمن والازدهار
لا تخفي الولايات المتحدة سياسة العصا والجزرة التي تتّبعها في تقويض الدول التي تراها مارقة للمحافظة على موقعها المهيمن في العالم. ودَّعَنا وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل قبل أسابيع بتهديد ووعيد من هذا الطراز (بالمناسبة يُنصح بالاستماع إلى تصريحات ديفيد هيل لمن يعاني من الأرق، فالرجل علبة حبوب منوّمة متجسدة في شبه إنسان). قال هيل من بعبدا إنه أتى «إلى لبنان بناءً على طلب الوزير بلينكن للتأكيد على التزام إدارة بايدن المستمر تجاه الشعب اللبناني ورغبتنا المشتركة في الاستقرار والازدهار في لبنان». ثم شرح أن «تكديس حزب الله للأسلحة الخطرة والتهريب والأنشطة غير المشروعة والفاسدة الأخرى تقوّض مؤسسات الدولة الشرعية وتسلب من اللبنانيين القدرة على بناء بلد مسالم ومزدهر».
طبعاً لبنان الصغير ليس فريداً، فإذا بحثتم عن كلمة «ازدهار» في بيانات وزارة الخارجية الأميركية تكتشفون أن روبوتات خارجية واشنطن تكرّر هذا الموّال منذ عقود وأينما حلّت. إليكم مثالين، أحدهما من الشرق في مواجهة الصين، «سوف نقف مع أصدقائنا وحلفائنا لتطوير أمننا وازدهارنا وقيمنا المشتركة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ». وآخر من الغرب يطبّل لدور كولومبيا في حصار فنزويلا العظمى، «كولومبيا شريك رئيسي في الجهود القائمة لمساعدة فنزويلا في عودتها إلى الديمقراطية والازدهار الاقتصادي».
يقولونها ويكرّرونها بوضوح وبلا خجل: إما أن تكونوا مسالمين خانعين أو نجوّعكم. واليوم التهديد بالجوع لم يعد تهديداً بل دخلت محاولة التجويع قيد التنفيذ.

دولة المصرف ودولة الشعب
بدأت عملية التجويع الإجرامية وعادت كراتين الإعاشة للظهور في الإعلام اللبناني المحكوم بالمصرف من زاوية المزايدات السياسية الضيّقة وتقاذف اللوم والمسؤولية عن الانهيار، علماً بأن تلك الكراتين لم تغب يوماً، بل تمّ تغييبها إعلامياً لأنها لم تكن تتناسب مع سردية البحبوحة. فكراتين الإعاشة كانت قُرصاً في كل عرسٍ انتخابي في جمهورية الطائف من دون استثناء، وهنا وجب التفريق بين كرتونة العيش الكريم وصناديق الذل.
لاحظوا الفرق في ترويج الإعلام لمؤتمرات استجداء «الازدهار» عندما يكون المستفيدون جشعي «حزب المصرف»، وكيف تنقلب التغطية حين يكون المتلقي فعلاً محتاجاً في ظل انهيار اقتصادي من صنع الجشعين ووباءٍ باغت العالم وضرب لبنان في أكثر لحظاته ضعفاً، ولن نتوقف هنا عند الأفراد «المستقلّين» الذين يرددون كالببغاوات خط الانحياز للمصارف وازدراء الفقراء، فهذا التابع والمنبطح لا يقدّم ولا يؤخّر، وهو نفسه ذلك المسالم المصدّق لوعود ديفيد هيل وشينكر بالازدهار.
كرتونة الإعاشة بالحد الأدنى من السعرات الحرارية التي يحتاج إليها الفرد ليعيش هي حق أساسيٌّ من حقوق الإنسان. بل أضف إلى الكرتونة الطبابة والدواء والتعليم والمَلبس والسكن اللائق. هذه حقوق معترف بها في القانون الدولي وليست منّةً من أحد، ووحده من يوفرها يستحق توصيف الدولة. في ظل انهيار دولة المصرف لا بد من الثورة من أجل دولة الشعب. في هذه الدولة، كرتونة الإعاشة الموصوفة أعلاه هي الحد الأدنى من الحقوق لكل مواطن يسكن أراضي الجمهورية. طبعاً ستعلو الأصوات المعترضة بحججٍ عدة على أي طرح في هذا الاتجاه، وذلك يسهّل عملية غربلة وفصل عملاء دولة المصرف عن ثوّار دولة الشعب.
منذ عام حاولت الحكومة المستقيلة توزيع مساعدات مالية على الأكثر حاجة فانتفض مفتي جمهورية المصرف، وهذا العام أفقد تدقيقٌ جنائيٌّ في هدر المال العام راعياً عقله، لكن لا أحد يتوقّع ثورةً من المؤسسة الدينية. في البدائل المدنية، هناك من يقول إن الدولة غير مؤتمنة ويريدون الإعاشات أن تمرّ من خلالهم رغم عدم حيازتهم لأي شرعية تمثيلية، من دون أن ندخل في تداعيات هذه الخطوة في ضرب ما تبقّى من مؤسسات الدولة واستبدالها بمنظمات تأتمر من المموّلين بدل الناخبين، كأن ما ينقص لبنان هو الدويلات الريعية. طبعاً معظم هؤلاء البدائل «غاشيين وماشيين»، فهم يتلقّون حصة الأسد من الإعاشات الدولارية ظنّاً منهم أنهم الأكثر استحقاقاً بين الشعب، وكما المصرفيون في السابق يظنون أن المال يأتيهم حبّاً بلبنان وازدهاره.
دولة إعاشة الشعب كبديل لدولة الارتهان للمصرف وأسياده في المنظومة المهيمنة هي الهدف الثوري الوحيد. وأيّ شيء غير ذلك هو إعادة إنتاج لنظام يخدم قلة على ظهر الشعب، ولو تبدّل بعض من هذه القلّة أو تغيّرت حصتهم من المغانم. وبالتالي، يشكّل تحصين الشعب ضد الجوع والحصار الخطوة الأولى نحو التحرّر والنهضة والازدهار. وربما يجب أن تتضمن كرتونة الإعاشة «بوشار» ليستمتع به الشعب عند مشاهدته لحلقات مسلسل انهيار دولة المصرف والهستيريا المتزايدة لمنتفعيها الميتّمين، عسى أن نكون قد تعلّمنا درساً من دولة الطائف، وألّا تحمل لنا كراتين الإعاشة مجدّداً منقذاً معلّباً في الخارج.