أزال رئيس بلدية بيروت بلال حمد، أمس، كل علامات الاستفهام حول قانونية صفقة تلزيم كاميرات المراقبة وتوابعها في شوارع بيروت، التي تبلغ قيمتها نحو 40 مليون دولار أميركي. هذا الملف كان قد سلك طريقه إلى ديوان المحاسبة. وما كاد الأخير يبدي رأيه الواضح في طلب حمد «غير القانوني»، حتى وجد رئيس بلدية العاصمة طريقة أخرى للتحايل على المجلس البلدي وتلزيم المشروع لشركة «غوارديولا» بالتراضي. يريد «الريس» إمرار الصفقة ـــ الفضيحة مهما كان الثمن. فالشركة التي رست عليها المناقصة المثيرة للريبة، والتي أكّد ديوان المحاسبة مخالفتها للقانون، عادت وفازت بعقد تركيب الكاميرات في بيروت، نتيجة صفقة بالتراضي. تلطّى حمد وراء تيار المستقبل لمساندته في إمرار مشروعه/ما اللاقانوني، الذي سبق أن تولى (القيادي في تيار المستقبل) ماهر أبو الخدود مهمة تسويقه لدى محافظ بيروت بالوكالة ناصيف قالوش ووزير الداخلية مروان شربل آنذاك. نجح أبو الخدود في مهمته حينذاك. لكن المشروع أحيل على ديوان المحاسبة، بعدما «أرسيت» المناقصة على شركة «غوارديولا». وبعد نحو أسبوعين، أتى رد الديوان برفضه الموافقة على عملية التلزيم، مشيراً إلى «افتقاد الصفقة للسند القانوني الصحيح».
لكن قرار الديوان لم يوقف طموح رئيس بلدية بيروت الراغب بإنجاز «الصفقة»، فغيّر خطة عمله للهروب من الأحكام القانونية. دعا أعضاء المجلس البلدي إلى جلسة استثنائية يوم أمس لمناقشة ملف تلزيم الكاميرات. قرأ لهم ــ من ورقة ادعى أنها «تقرير الديوان» ــ أسباب رفض التلزيم من دون أن يوزعه على الحاضرين. وهكذا تمكن من التحايل على المجلس البلدي عبر ابتداع فقرة وهمية كاذبة نسبها إلى الديوان تقول: «رُفض طلبنا لأنه تم إجراء المناقصة بطريقة خاطئة، ولكن الديوان أجاز لنا استناداً إلى إحدى المواد القانونية الاستعاضة عن المناقصة بالتعاقد بالتراضي مع الشركة الرابحة». مرر بعدها سريعاً على الحاضرين (14 عضواً من أصل 24) ورقة مطبوعة تجيز التعاقد بالتراضي مع شركة «غوارديولا» بقيمة إجمالية تبلغ 61 مليار ليرة (نحو 40 مليون دولار). وقع 13 عضواً (أي نصف عدد الأعضاء زائداً واحداً) القرار، بعد أن أقنعهم «الريّس» بضرورة الموافقة حفاظاً على «أمن بيروت». وتمكن من خلال تلك الخطوة من القفز فوق عوائق الديوان القانونية لإمرار صفقته وتيار المستقبل وشركة «غوارديولا». علماً أن رائحة فضيحة أخرى تفوح من طريقة اختيار حمد للشركات الخمس التي تنافست على مشروع التلزيم استناداً إلى شروط الدراسة المقدمة من دار الهندسة. إذ يؤكد جميل نصار (أحد أصحاب شركات تركيب كاميرات المراقبة) أن «البلدية اكتفت بدعوة خمس شركات مختارة مسبقاً، مع العلم بأن أربعاً منها ليست من ذوي الاختصاص وغير منتسبة إلى نقابة محترفي الحماية والسلامة في لبنان». وأشار لدى استجواب الديوان له إلى عدم دعوته إلى المناقصة، رغم «امتلاك شركته الخبرة في هذا المجال منذ أكثر من 20 سنة». وذلك يكفي، وفقاً لأحد أعضاء البلدية، «للتأكد من أن حمد تعمّد اختيار الشركات بنفسه، متذرعاً بالظرف الأمني الذي يحتم بت المشروع بسرعة. وهكذا تمكن من استبعاد الشركات التي يمكن أن تنافس شركته المعتمدة».


تفاصيل التقرير

يظهر قرار ديوان المحاسبة في الرقابة الإدارية المسبقة الذي حمل الرقم 472/ر .م وصدر بتاريخ 18/3/2014، مخالفات صفقة رئيس البلدية بالتفصيل. يبدأ بإيراد أقوال حمد خلال الجلسة الاستيضاحية التي أجراها الديوان معه بتاريخ 11/3/2014، حيث سئل عن سبب حصر المنافسة ضمن خمس شركات: «كان هدف المجلس البلدي السرعة، نظراً إلى الوضع الأمني المتمثل بالسيارات المفخخة، وذلك بعد وقوع جريمة... عندها أخذنا قراراً سريعاً بإنشاء هذه الشبكة المتطورة المرتبطة بغرفة تحكم (...) لذلك كان لزاماً علينا البحث عن شركات كبرى تقوم بهذه الأعمال ويشهد لها بالخبرة في لبنان وخارج لبنان، وقد تم حصرها بخمس شركات ووضع دفتر شروط. وإن الشركات الخمس تستوفي تلك الشروط والمواصفات الموضوعة في الدراسة المقدمة من دار الهندسة. لذلك ذهبنا إلى إجراء مناقصة محصورة مع تلك الشركات الخمس». كلام حمد لم يقنع ديوان المحاسبة، وخصوصا لطريقة إجراء المناقصة. فاستناداً إلى المادة 143 من قانون المحاسبة العمومية والمادتين 42 و 43 من نظام المناقصات، يفترض بالمناقصة المحصورة أن تجري على مرحلتين: «الأولى يتم فيها تحديد المناقصين المقبولين للاشتراك في المناقصة، بناءً على المستندات المقدمة من قبلهم. والثانية يتم فيها إجراء المناقصة فعلياً بعد إبلاغ المناقصين نتيجة دراسة طلباتهم وإعطائهم المهلة القانونية اللازمة لتقديم عروضهم».
يتابع الديوان عرض ملابسات الطلب المقدم، مشيراً إلى أن «عملية التلزيم، كما تمت، لا تتفق مع الإجراءات الواجب اتباعها في حالة المناقصة المحصورة، ولا تجوز إلا في حالة استدراج العروض. إذ قام المجلس البلدي بتسمية المناقصين المقبولين دون دراسة مؤهلاتهم مسبقاً والتأكد من توافر الشروط المطلوبة في دفتر الشروط لديه». وقد استند التقرير في طعنه بقانونية تلك المناقصة إلى الإشارة إلى أن إجراءات البلدية أدت إلى «حصر المنافسة بين الشركات الخمس المدعوة؛ وتالياً إلى استبعاد شركات أخرى تتوافر لديها المؤهلات والإمكانات المادية والفنية لتنفيذ هذا النوع من الصفقات. الأمر الذي يفقد المناقصة الحاضرة أحد ركنيها الأساسيين (المنافسة والمساواة)».
من جهة أخرى، يضيء التقرير على طريقة حمد في إمرار قراراته في المجلس البلدي عبر تعمّد إخفاء الملفات والقرارات عن الأعضاء وتلاوتها عليهم شفهياً من دون توزيع نسخة منها. ويشرح إيلي حاصباني، أحد أعضاء المجلس البلدي، خلال سؤال الديوان له عن اعتراضه على الصفقة الحاضرة، أن حمد رفض إطلاعه على الملف، رغم تكراره للطلب في جلسة لجنة المناقصات وجلسة الموافقة على التلزيم. ويبدو أن «الريّس» المستعجل لتلزيم المشروع، أهمل أحكام المادة الأولى من دفتر الشروط الخاص. ولم ير فائدة من التنسيق الضروري مع قوى الأمن الداخلي؛ إذ ينفي كل من العقيد حسين الحاج حسن والمقدم فدعا الغصين في إفادتيهما أي تنسيق بلدي مع قوى الأمن الداخلي.
هنا ينتقل التقرير إلى دراسة بعض مواد دفتر الشروط المخالفة للقوانين. إذ تدعي الفقرة الخامسة من المادة السادسة والفقرة الأولى من المادة العاشرة والفقرة الثالثة من المادة الثانية عشرة في دفتر الشروط «إمكانية تقديم العارض كتاب ضمان من إحدى المؤسسات المالية المعترف بها قانوناً». إلا أن ما سبق غير مقبول «نظراً إلى مخالفته أحكام المرسوم 1245/32 الذي لم ينص على قبول الكفالات الصادرة عن المؤسسات المالية، بل نص على قبول كفالة المصارف المسجلة على لائحة المصارف التي يصدرها مصرف لبنان بالاستناد إلى المادة 136 من قانون النقد والتسليف». وبناءً عليه، يفتقد ملف شركة غوارديولا لكفالة من أحد المصارف التي يعتمدها مصرف لبنان.
وأيضاً يظهر التقرير تخطي بلدية بيروت لمجلس الوزراء عبر محاولتها التحايل على المواد القانونية؛ اذ تتيح الفقرة الأولى من المادة العاشرة لدفتر الشروط «إعطاء الملتزم سلفة مالية تبلغ 15% من قيمة الصفقة مقابل كتاب ضمان»، من دون أن توضح أن «الحد الأقصى لهذه السلفة لا يمكن أن يتعدى مبلغ /30،000،000/ ل. ل. (ثلاثين مليون ليرة لبنانية) إلا بقرار من مجلس الوزراء سنداً إلى أحكام المادة 137 ق .م. ع». علماً بأن البلدية بحاجة إلى تلك الموافقة؛ لأن مبلغ السلفة «سيتجاوز حتماً سقف الثلاثين مليون ليرة لبنانية المشار إليه، نظراً إلى أن قيمة الصفقة تقدر بنحو ستين مليار ليرة لبنانية أي 300 ضعف السقف المحدد قانوناً».
بناءً على كل ما سبق، يخلص ديوان المحاسبة إلى عدم الموافقة على مشروع التلزيم المعروض، ويرى أنه «لا داعي لبحث سائر النقاط الأخرى». ويشير إلى ضرورة «إبلاغ هذا القرار إلى كل من بلدية بيروت – المراقب العام لديها – النيابة العامة لدى الديوان».

يمكنكم متابعة رولا إبراهيم عبر تويتر | @roulaibrahim




أبو الخدود والريّس والمحافظ والوزير

قبيل أسبوع من تسليم وزير الداخلية مروان شربل لوزارته، تلقى قرار مجلس بلدية بيروت بشأن تلزيم تركيب كاميرات مراقبة لشركة «غوارديولا». صدق شربل على القرار «بعد موافقة المجلس البلدي والمحافظ عليه، وقمنا بتحويله إلى ديوان المحاسبة الذي من المفترض أن يحقق بقانونية المناقصة»، وفقاً لمصادر شربل. وتوضح المصادر أن القرار «بيمشي بعد 10 أيام حتى لو لم يصدقه الوزير، لأن وزارة الداخلية وزارة وصاية وحسب». فيما برر محافظ بيروت بالوكالة ناصيف قالوش، سبب توقيعه القرار بأنه «سلطة تنفيذية تنفذ فقط»! أما أعضاء المجلس البلدي الذين وهبوا تواقيعهم لرئيسهم من دون الاطلاع على الملف، فلم يجدوا سبباً أكثر إقناعاً سوى «إحراج الريّس (بلال حمد) لنا بالظرف الأمني».
ويكشف هنا أحد الأعضاء أن حمد يعمد منذ ثلاثة سنوات ونصف على إمرار صفقات مماثلة، بالطريقة ذاتها. ويبدو أن الريّس سينجح هذه المرة أيضاً في إمرار صفقة قيمتها 40 مليون دولار، لتسليم أمن بيروت لإحدى الشركات التي يتبناها مسؤولون في تيار المستقبل، على رأسهم ماهر أبو الخدود. وتجدر الإشارة إلى أن وزير الداخلية نهاد المشنوق، كان قد اعترض على هذه الصفقة، ووجّه إنذاراً إلى محافظ بيروت بسبب موافقته على إمرار المناقصة.