العبارة ليست تشبيهاً أدبيّاً، بل هي التشخيص الوحيد للحالة القائمة في لبنان اليوم، وأيّ توصيفٍ آخر لن «يلطّف» الأمور، بل يعين على التشويش وسوء الفهم. يحصل الافلاس حين تعجز عن دفع ما تدين به في وقته، أو عن الافراج عن أمانة، أو عن الوفاء بما تعاقدت عليه. هذا هو تحديداً وضع المصارف اللبنانية منذ أكثر من شهرين. يجوز في حالاتٍ معيّنة أن يقوم المصرف أو الشركة بتأجيل استحقاقاتٍ أو تعديلها، بعد التفاوض مع الدائنين، بغية تجنّب وضعية «الافلاس» هذه؛ ولكن ذلك يحصل بموافقة الدائنين حصراً، وضمن خطّة واضحة لاسترداد أموالهم، وليس على الطريقة اللبنانية حيث تُفرض عليك هذه الاجراءات الزاماً وبلا اعتذاريات.أتعرفون وضعية «ادارة التفليسة»، حين تقع شركة في عجزٍ وتتوقّف عن الدّفع، فتُشكل لجنة قضائية لحراسة ما تبقّى من أصولها وتصفيتها، وتبدأ بتوزيع هذه الأموال على المستحقّين وتضع آلية لهذا الهدف؟ هذه هي المرحلة التي نعيشها اليوم وإن باسمٍ آخر. وكلّ لبناني هو أسيرٌ، بدرجاتٍ متفاوتة، لهذه العمليّة. الفارق الوحيد بين ما يجري حالياً وبين إدارة تفليسة «محترمة» هو أنّه، في الحالة الثانية، تكون هناك قواعد، ونوعٌ من العدالة في توزيع الخسائر، ويستردّ المحتاج ماله أوّلاً؛ أمّا هنا، فلا ضمانات. حين يجبرك المصرف على استرداد ودائعك بالليرة بدلاً من الدولار (الغالبية العظمى للودائع في لبنان هي بالدولار)، وبالسعر «الرسمي» الزائف، فهو هنا يفرض «خصماً» (أو استيلاء\ خوّة\ سرقة) متساوية عليك بغضّ النّظر عن موقعك في «التفليسة». بمعنى آخر، ستخسر نصف قيمة المال الذي تسحبه تقريباً، سواء كان في حسابك خمسة آلاف دولار أو خمسة ملايين.
الفكرة الأساس هنا هي أن نقتنع بأنّ الأموال التي في المصارف ليست «محجوزة»، يرفض المصرف الافراج عنها، بل هي غير موجودة. هذا المال، أو قسم كبير منه، قد ضاع أو هو لم يكن حقيقياً من الأساس. الأمر الوحيد الذي يمكن أن نفعله اليوم، قبل أن تنحدر الأمور الى الفوضى، هو أن نستردّ «مالنا»، و«نحن» هنا ترمز للأغلبية، أي صغار المودعين والمؤسسات الصغيرة، ولتأخذ التفليسة بعد ذلك مجراها. لا تصدّقوا رياض سلامة حين يخبركم بأنّ ودائعكم في الحفظ والصّون: من مشاكل «اقتصاد الدّين» أنّه يوهم المؤسسات والناس بأنّ لديهم أصولاً حقيقية لها قيمة (سندات الدين العام مثلاً)، ويبنون حساباتهم وينفقون ويستدينون على هذا الأساس. ولكنّ هذه الأصول التي يستند اليها الاقتصاد وتسيّره ليست مالاً محفوظاً في مكانٍ ما، بل هي بمثابة رهانٍ على انتاج مستقبلي يكمل تدوير الدّين. على سبيل المثال، انت حين تشتري سنداً من الدّولة اللبنانية، فإن قيمة السند مبنية على افتراض أن الدّولة لديها القدرة على استخراج ضرائب من الاقتصاد اللبناني، وأنها ستدفع ما تدين لك به من هذه الموارد المستقبلية (أو تستدين مجدداً لتدفع سندك، وهو ما يحصل في العادة). حين تختلّ هذه الدّورة - وهذا، يزعم الكثيرون، سيحصل بلا ريبٍ حين تتضخم كتلة الدّين بلا حساب - عليك أن تعيد النظر في فكرة «القيمة» لديك من الأساس. ليست الدولة وحدها من سيعجز عن تسديد الأقساط وتدوير الدّين، فالشركات والأفراد سيتبعون؛ بل إن اختلال العملة وحده يمحو قدراً كبيراً من الأصول التي يفترض أن تغطّي الودائع (المصارف تستقبل الودائع بالدولار ثمّ تحولها الى سندات خزينة بالليرة اللبنانية، وهذا من الأسباب التي تمنع البنوك من «القبول» بواقع بتغيّر سعر الصّرف).
لا معنى لأن نأمل بعودة الأمور الى «طبيعتها»، ومن أمامه الحسابات ويمسك بالاقتصاد ومؤسساته هو أوّل من يعرف ذلك، ويعمل منذ فترة على هذا الأساس. فكرة أنّ القطاع المصرفي سيستمرّ، كما في الماضي، في اجتذاب الودائع والدولارات وتغطية استيرادنا وديوننا، ونعيد العجلة القديمة الى الدوران، هي محض وهم. لا أحد سيثق مجدداً بالمصارف اللبنانية في المدى المنظور، ونحن على الأرجح قد ضيّعنا مدّخرات المغتربين وأكثر استثماراتهم، وهم لن يعطونا الفرصة لكي نعيد الكرّة قبل زمنٍ طويل.

الايديولوجيا والتغيير
ولكنّ السؤال في لبنان سياسي وليس اقتصاديّاً (ولا أعتقد، بصراحة، أنّ هناك «حلاً» اقتصادياً ممكناً في هذه المرحلة، باستثناء اعتماد «ادارة التفليسة» بشكلٍ رسمي، وتوزيع ما تبقّى، والاعتذار لكلّ من فتح في لبنان حساباً مصرفياً كبيراً أو اشترى من الدولة سندات دين). الكثير من «المنظرين الثوريين» في الفترة الماضية بدا وكأنّهم يتفاءلون بحلول الانهيار و«الجوع» باعتباره سيكون محفزاً ثورياً، وأن الناس حين تجوع، «ستأكل السياسيين». هنا المشكلة الأولى، هم يعتقدون على ما يبدو بأنّ الفئات الشعبيّة، حين تصل الى تلك المرحلة، فهي ستتقاطر اليهم وتتحلّق حولهم لتسألهم عن الطريق قدماً. ولكن التاريخ يخبرنا بأن الناس حين تجوع، لا تأكل السياسيين، بل تأكل الأغنياء (وبعض الطبقة الوسطى معهم). «ثورة الجياع» هي نمط الفعل الذي لا يطلب اذناً، ولا يهمّه من يسانده ومن ينتقده، ولا يميّز بين مترفٍ وآخر. في ثورة الجياع لا يعود في وسع من يرتدي ثياباً غالية، ويحمل هاتفاً ثميناً، وراتبه أجنبي ويملك سيارة حديثة - بغض النظر عن رأيه السياسي - أن يسير بأمانٍ في الشّوارع. و«ثورة الجياع» لا تفضي غالباً الى نتيجة سياسيّة أو الى شرعيّة بديلة، بل يتوحّد الجميع لسحقها.
ما حصل في الليالي الماضية في بيروت لم يكن شيئاً «جديّاً» بعد. مجرّد انفلاتٍ محدود، ولكنّه «غير متوقّع»، للغضب، فأصيب الجميع بالذعر. دعك من كمّ الادانات تتقاطر من مختلف الأطراف السياسية، في «السلطة» و«المعارضة»، ونزع الشرعية عن الغاضبين؛ ودعك من جميع أشكال التحقير السياسي والطبقي والطائفي التي خرجت لتبرير العنف ضدّهم، تخيّلوا أنّ منسّق الأمم المتحدة في لبنان، بنفسه، قد تدخّل ليحذّر من «الشغب والتخريب» (قبل أن يتدخّل مجدداً في اليوم التالي ليدعم رياض سلامة ويثني عليه). و«العنف» هنا لم يوجّه ضدّ مدني، ولم يؤذ مرفقاً عامّاً، ولا حتى قطع طريقاً؛ بل كان سياسياً بالكامل وموجّهاً حصراً ضدّ المصارف. المصارف التي تذلّ الناس في النّهار، وتتآمر على مصالح الغالبية، قد نالها الغضب ليلاً. تمّ تحطيم الواجهات ولكن لم يسرق شيء. الفعل كان رمزياً بالكامل، ولم يمسّ محلُّ في الشارع التجاري (للأمانة، حطّم المحتجّون ايضاً بعض عدّادات الوقوف في الشّارع، ولكنها أصبحت عند الشعب منذ زمن - مثل السجون والمخافر والمصارف - رمزاً «سلطوياً» مكروهاً). ردّة الفعل؟ عنفٌ شديد، واعتقال أكثر من خمسين محتجّاً وقسوة (من الواضح أنها مدفوعةُ بأمرٍ سياسيٍّ من فوق) لم نشهد لها مثيلاً طوال الفترة الماضية، حتى حين كادت الأمور أن تصل الى درجة الاشتباك الأهلي. الفكرة هي أنّهم لم يروا شيئاً بعد وبناءً على مواقف الأيام الماضية، فإنّ من ينتظر الجوع وثورته حتّى تسانده قد يكون أوّل من يدعو القوى الأمنية الى قمع الجياع حين يظهرون حقّاً (البعض يريد ثورةً من غير أن يقرأ الأدبيات الثوريّة، التي تشرح له كيف تحصل الثورات، ومن غير أن يقرأ الأدبيات المحافظة، التي تشرح له بأن الجوّ الثوري الحقيقي لن يكون بالضرورة مكاناً مناسباً له).
التطرّف على المقلب الثاني هو ما يمكن أن نسمّيه اصطلاحاً: «المفهوم النيوليبرالي للنضال»، وهو نمطُ للاحتجاج ظهر حول العالم منذ بداية التسعينيات في شرق أوروبا، يتشابه في أسلوبه وخلفيته الايديولوجية، وهو المفضّل لدى النخب القريبة من الغرب: التظاهرة\العرض، دورٌ مركزي للاعلام المساند، نموذج «الثورة الملوّنة»، أن تجمع غالبية شعبية في لحظةٍ معيّنة ضدّ نظام، أو تخلق «تشبيهاً» مقنعاً لغالبية شعبية، الخ.
بالمعنى الايديولوجي ايضاً، تتشابه هذه الحركات في أنّها تطالب فعلياً، إن تفحّصنا خطابها، بتطبيق ما يسميه جمال غصن «الأممية النيوليبرالية» البسيطة، ولا يمكن لاجماعها أن يذهب الى ما هو أبعد وأعقد من ذلك: في بلدٍ كلبنان، مثلاً، لا يكون الهدف إعادة النظر بأسس النظام وتثويرها، أو بالرأسمالية التي هي هنا النظام الحقيقي، بل يكون الخطاب هو أنّ الليبرالية لا يتمّ تطبيقها «كما يجب». هناك فساد و«غشّ» يمارسه الطاقم الحاكم ويشوّه النظام «الديمقراطي» والرأسمالي، والحلّ دائماً هو في وضع طاقمٍ جديد على رأس الهيكل نفسه («نظيف»، شاب، اصلاحي، تكنوقراطي، الخ.) يحلّ محلّ الفاسدين ويبني الحلم النيوليبرالي كما يجب - وفي العادة، يبدأ عهده باتفاقات مع صندوق النقد والمانحين، الذين يصممون اقتصاد البلد ويربطونه بالنظام العالمي.
هناك مشكلتان في هذا النموذج، وبخاصة في الحالة اللبنانية. الأولى هي أنّه، بطبيعته، ليس وسيلةً لبناء حركةٍ أو بنى دائمة تراكمية أو تنظيم طويل الأمد، بل هو ينفع حصراً لما يشبه «الانقلاب»: ينجح في لحظةٍ مؤاتية أو لا ينجح فيخبو. ثانياً، هذا النموذج، حتى تكون له فرصة للنجاح، يحتاج الى توافر جملةٍ من الظروف: إعلامٌ محلّي يدعمك ويغطّي الأحداث، أن تحوز تأييد قسمٍ كبيرٍ من النخبة والطبقة الوسطى - واجهة هذا النمط من التظاهرات، دعمٌ من القوى الدولية لكي تحظى بتغطية مساندة من «سي ان ان»، وتعاطف المراسلين الأجانب. ولكن، إن كنت فقيراً حقاً، أو مهمشاً حقّاً، والاعلاميون ليسوا أصدقاءك، والغرب يعاديك أو لا يكترث لك، فأنت قد تجمع مئات الآلاف، وتكتسح الشوارع، وسيتم قمعك ببساطة - أو تجاهلك - من غير أن يسمع بك أحد. على الهامش هنا: حين يمشي اليسار مع نقيضه الليبرالي في نشاطاته وحملاته ومشاريعه، فهو لا يخسر الحرب الايديولوجية معه فحسب (اذ بدلاً من أن يكون هو خطّ الدفاع ضد هؤلاء، يعطيهم شرعية وصدقية؛ ولا نحتاج لأن نكون أتباعاً لكارل شميت حتى نفهم معنى أن لا تميز الصديق عن العدو في السياسة، وأن لا ترسم خطوط العداوة مع الخصم الذي ينافسك ويريد استبدالك)، بل هو يخسر أحياناً «منهجيته» وشخصيته: بدلاً من أن يخطط لأهدافه الخاصة كيسار، ويبحث عن وسائل خاصة به لتنفيذها، يندمج في نموذج غيره، ويبدأ بتقليد أسلوبه او «تنويعات» عليه، ويعتمده كرؤيةٍ وحيدة ممكنة للعمل السياسي.
حين كتب لينين وغرامشي وماو وغيرهم من المفكرين «الثوريين»، لم يكن هدفهم أن يقنعوك بأنّ وضعك سيّء وأن يحفّزوك لكي تغضب و«تثور». في الصين في بداية القرن العشرين، أو في اوروبا قبل ذلك بقرن، أو أي حقبةٍ ماضية في العالم، كان مقدار الظّلم اليومي في المجتمع، والمعاناة البشرية وانعدام المساواة، فوق ما يمكن لانسان معاصر أن يتخيله، ولكن ذلك لم يصنع فارقاً في حدّ ذاته أو يخلق ثورة. كان لينين يكتب لكي يشرح كيف يمكن تحقيق هذا «التغيير الاشتراكي» المنشود على أرض الواقع، وكيف تتحوّل «الطبقة» الى قوة سياسية تصل الى الحكم وتحتكره وتثوّره. والسبيل الى ذلك في تحليله - وفي سياقه التاريخي - كان عبر أدوات مثل الحزب المركزي والتحشيد الجماعي والتنظيم العقلاني. أما ماو، فقد شرح بأنك تحتاج الى تنظيرٍ عن المجتمع الذي تعمل في اطاره، وأن تعي فئاته وطبائعها وأعدادها ومصالحها، وذلك لسبب عمليّ: عليك أن تقترب من سواد شعبك وأن تفهمه ان أردت أن تبني حلفاً اجتماعياً يقدر على قلب النظام القديم (قارنوا بكميّة «الشعر» التي نٌشرت في لبنان في الشهور الأخيرة، نصوص كاملة لا تخبرك أيّ شيء «حقيقي» في الواقع أو في التحليل، بل تكتفي بأوامر وتوجيهات؛ وكمٍّ من «الأنبياء» يوصّفون تجارب اشراقية وتحوّليّة مرّوا بها لا تشبه من يقوم بعملٍ سياسي ويفكّر، بل من انضم الى فرقةٍ دينية و«ولد من جديد»).

«الانهيار»: دعه يمرّ
في لبنان لا الطريق النيوليبرالي ولا «ثورة الجياع» هي خيارات واقعيّة، فالطريقان مقفلان - لأسباب كثيرة - في السياق اللبناني. الخيار اليوم، كما أراه، والمعركة الحقيقية هي في منع «الانقاذ» - كما سيسمّى قريبا حين يُعرض علينا. سأشرح: كبار المودعين وأصحاب المصارف والسياسيون والاعلام وكلّ من لديه مال وسلطة في هذا البلد تجمعهم اليوم حاجة حارقة وهدفُ واضح، وهو أن تستمرّ آلة المصارف والدّين بالعمل - فهذا السبيل الوحيد لاستعادة ودائعهم. بمعنى آخر، هم يريدون أن ينفخوا الحياة في الجثّة التي استعبدتنا طويلاً حتى يستعيدوا ما أمكن من أموالهم. تذكّروا أن الودائع هي في الدّين، والدّين هو حجزٌ على انتاج ودخلٍ في المستقبل، هو دخلنا نحن. هذه هي العملية التي أفقرتنا طوال السنوات الماضية، وهم يحاولون تأمين استمرارها. أي أنه سيكون علينا أن نتجنّد، جماعياً، لكي نعيد لهؤلاء الأثرياء ودائعهم بعد أن انكسر نظامهم وأفلسوا. «إعادة التأسيس» المشؤومة هذه تحتاج الى عنصرين: الى اقتصادٍ يمكن أن تستخرج منه هذه الضرائب، وشرعيّة سياسية لتحويل الدولة الى «وكيلٍ» لردّ خسائر التفليسة لكبار المودعين على حساب كلّ شيءٍ آخر (هذا، بالمناسبة، هو التفسير «الحسن النيّة» لهذا التيّار، فهناك تحليلٌ آخر بأنهم يعرفون أن لا شيء، ولا حتى بيع الأملاك العامة والسيادة وعصر الموظفين وتخفيض العملة، يمكن أن يعيد احياء هذا النظام، بل جلّ ما يريدونه هو «مهلة» سنةٍ أو سنتين لتهريب ما أمكن من أموالهم وبيع أصولهم في البلد واعادة بناء سلطتهم الاجتماعية).
تخيّلوا الفارق بين أن يظهر لدينا نفطٌ وغاز، فيحجز بأكمله لتمويل القطاع المصرفي ودورة الدّين، وبين أن نحصل على هذه الثروة بعد سنواتٍ «على نظيف»، بعد أن تكون التفليسة انتهت، وتحررنا من الدين العام، وخرجنا من الانهيار الى ما بعده - فيؤمّن لنا طاقة رخيصة ودفعاً للاقتصاد ودخلاً ننفق منه على المجتمع. هذا مجرّد مثال يمكن تطبيقه على كلّ مجالٍ آخر.
الفكرة الأساس هي أن نقتنع بأنّ الأموال التي في المصارف ليست «محجوزة» يرفض المصرف الافراج عنها بل هي غير موجودة


الانهيار وقع، وهو كارثة على الجميع، ولكن يجب أن نتذكّر أنّ الجميع ليس متساوياً في الخسائر، والتقييم السياسي يبدأ من هذه التمايزات وليس من رمي الجميع في سلّةٍ واحدة كأنّ مصالحهم متشابهة («كلّ اللبنانيين» لا «يذلّون» أمام المصرف يوميّاً، مثلاً، فأكثر اللبنانيين ليس لديهم مدخرات). مدخرات الطبقة الوسطى أسيرةٌ في الأزمة، هذا صحيح، ولكن أموال الأثرياء وكبار المودعين هي أكبر بكثير، بما لا يقاس. نحن في احدى الحالات النادرة حيث يكون الثريّ متورّطاً أكثر من الفقير، والبعض لا يدرك - على ما يبدو - المعنى السياسي لأن تُمحى ثرواتهم جميعاً. لا يوجد تغيير سياسي أعمق من هذا، لا طريقة للمساواتية أفعل وأسرع. هناك من يظنّ أن «الجوع» و«الانهيار» هما، كباقي العناوين السياسية، شعارٌ تستخدمه في وقته حين يأتي، ولكنّ هذه مفاصل تغيّر كامل «البنية التحتية» التي تجري عليها السياسة ومعنى السلطة وموازين القوى في المجتمع؛ وهذا ليس بالضرورة أمراً سيئاً.
من هنا أكرّر دوماً أن يملك مئة ألف دولار في المصرف هو عندي أهمّ ممن يملك مئة مليون، وذلك لسببين. من ناحية، يمكن أن نردّ بسهولةٍ أموال الأوّل وهذا لا ينطبق على الثاني، وايضاً لأن الأوّل يمثل فئة وسطى واسعة فيما الثاني ينتمي الى طبقة العدوّ. قبل ذلك كلّه لديّ، كما لدى الكثير من شعبي، رغبةٌ حقيقيّة في أن يخسر كلّ هؤلاء - «كبار المودعين» - أموالهم. المعنى البسيط للحقد الطّبقيّ. كلّ من صنع ثرواتٍ في لبنان في سياق العقود الماضية وبوسائلها، واعتقد أنّه «تذاكى» علينا ونجح على حسابنا وراكم رصيداً ضخماً في المصرف، نريد أن نرى ثروته تضيع وأن يصبح، فجأةً، على قدر المساواة معك. كلّ من صعد «الى فوق» عبر الفساد والتّسلّق وأمّن مركزاً أو وظيفةً محظيّة من الرّيع، نريد أن نرى راتبه وقد أصبح بلا قيمة. ونريد، حقّاً وبشدّة، أن نراقب هؤلاء وما سيحصل لهم، بعد التفليسة، وهم يحاولون أن يصنعوا مالاً حقيقياً لمرّة، بجهدهم وبمهاراتهم وبالحلال. من هنا تبدأ السياسة الجديدة، فلا تخف كثيراً من «الانهيار».