يكثر الزوار العراقيون في هذه الأيام، كما في السنين الماضية، منذ أن خفت نجم السائح القادم من الجزيرة العربية. بعضهم رجال أعمال لكن في الحقيقة أجهل ما يعملون. وكثرٌ يزورون بيروت للسياحة الطبية، فمستشفيات المدينة الخاصة هي من الأفضل في المنطقة، وهذه نقطة قوة حقيقية للمدينة وإن كانت تطاول المقتدرين شرقاً دون غيرهم. قد يكون ذلك نتيجة الضغط المجتمعي الدائم لتخريج أطباء. وربما لو ضغطت أمهاتنا وآباؤنا باتجاه دراسة الاقتصاد لما كنّا مفلسين اليوم. في رأس بيروت أيضا سورٌ يفصل برجها العاجي عن باقي المدينة، لكنّ للجامعة الأميركية كلاماً يطول في وقت لاحق.
طبعاً هناك زوار من الغرب أيضاً، وأكثر ما يستهويهم في بلادنا هو حمصنا المخفوق مع الطحينة. معظمهم لا يدركون أن هذا الطبق هو أبسط أطباق الحمص في مطبخنا وأن للحمص ألف طريقة تحضير، وما إن يكتشفون المسبّحة والبليلة والفتّات على أنواعها حتى يدمنوا بيروتنا ومطبخها «الشرقي». لكن هذه الأطباق التي يمتاز بها القاووق والسوسة وملك الفول وأبو حسان وأبو عيسى الفوّال والبروفيسور تغيب بشكل مريب عن المنطقة الممتدّة بين جسر الرينغ وردم النورماندي، والتي تُسمى زوراً وسط بيروت. كان وسط بيروت في ماضٍ يقال عنه بأنه كان مشرقاً حين كان بيار الجميل الجد يشتري اليانصيب من أبي عزت، وكانت المنطقة وسطاً عندما تناتشتها ميليشيات الحرب ومنها طبعاً ميليشيا بيار الجميّل الفاشية. لكنها منذ أن دخلت عهد شركة المقاولات باتت ركاماً وأرقاماً، أسهماً بقيمة اسمية وأرباح وهمية، ومساحات خالية وجدران لا تُؤوي إلا الغبار. وحده العفو الضريبي لشركة سوليدير حقيقي. وُعد لبنان والعالم في تلك الحقبة المشؤومة بازدهار اقتصادي تحت عنوان استدن تنمُ. إنه الوعد نفسه المسمّى الحلم الأميركي الذي يُغرق شباب الولايات المتحدة في ديون قروض التعليم التي تُثقل كاهلهم طوال سنيهم المنتجة. النيوليبرالية الأميركية هي الحلم الأميركي على مستوى الدول النامية.
أسهم، أرباح، أرقام، مساحات، فوائد، إيجارات وقروض، لكن ماذا عن البشر وذاكرة هذا الوسط؟ الحانات على سقف مبنى النهار أو البيال يتغير اسمها كل صيف حسب الشركة التي تستحوذ عليها. مطاعم فرنشايز يملك معظمها شركة واحدة بمستثمرين من الزمرة نفسها التي تتحكّم بثراء البلد. لا يوجد بائعو لوتو ولا جرائد. مبانٍ وممتلكات بقيم وهمية بلا ناس وبلا حمص ليست بمدينة. وهي أصلاً لم تُبْنَ لتكون مدينة، فهي بنيت لتكون جزءاً من حقيبة استثمارية. يقول الفيلسوف الماركسي هنري ليفيبر إن الأرستقراطية البورجوازية الحديثة لا تقطن المدينة، بل هم يتنقّلون من فندق فاخر إلى فندق فاخر ومن قصر إلى قصر ويديرون الأساطيل والدول من على متن يخت (كتلك اليخوت الراسية عند خليج مار جريس بأمان تام من العنف الثوري والمولوتوف). لذلك لا تهمهم المدينة ولا يأبهون أن كانت مدينتهم وهمية إن كانت مجدية لهم اقتصادياً. الكارثة هي أنه حتى في ذلك فشلوا.
«الشرق» الذي ينبغي أن ننحاز إليه هو سكان المدينة والأطراف الذين صمدوا في وجه سياسات اقتصادية ومالية عدائية
لكن يوجد حل ثوري لإعادة الحياة إلى المدينة الوهمية التي حاول أن يبيعها رفيق الحريري وفشل. فرض علينا الفكرة وفشل في بيع العقارات، وطبعاً الازدهار الموعود كان كذبة. أيعقل أن مشروعاً مُعفىً من الضرائب سلب أراضيَ وعقارات يخسر تجارياً؟ هو عقلٌ تجاريٌّ فذٌّ حقاً. الحل الثوري ليس بهتاف آلاف الحناجر أمام مبانٍ خالية في انتظار أن يطل أحد من الشباك. لن يطل لا ملك ليتنحى ولا حبيبة ولا حتى رابونزل المسجونة وحيدة في ساحة البرج. فقط مبنى شاكر وعويني المأهول بمحطات البثّ الفضائي يرى المحتجين وقد سئم نقل الصورة ذاتها يومياً.
لا بدّ من أن تُحرّر بيروت «الشرقية» الحقيقية بيروت المحتلة من وهمها. لا بدّ من إشغال الشقق والمكاتب والمحالّ ليعود إلى بيروت وسطها. إشغال العقارات الشاغره المعروف بالـ(Squatting) هو حقّ ويعيد القيمة الاقتصادية إليها، فهي الآن مهما كذبت أرقام شاشات المصارف والمكاتب العقارية تساوي صفراً. هناك سوابق لإشغال الشغور في كل أنحاء العالم وأثينا أقربها إلينا. فالحجر لا قيمة له من دون بشر يبثّ الحياة فيه. في تورينو الإيطالية مثلاً حوّل المشغّلون معامل وقصوراً ملكية خالية إلى مساحات منتجة فنياً وثقافياً واقتصادياً. تحويل شقق خالية في وسط بيروت إلى وحدات سكنية تُؤوي عائلات من النازحين الذين ينتظرون برد الشتاء في خيمهم ليس منّة بل أقلّ الأخلاق. افتتاح مطعم فتة وفرن مناقيش في محل كان طسّ الغرافيتي فيه الحركة الوحيدة التي يراها من سنين ضرورة غذائية لإعادة الحياة إلى المدينة. الحل الثوري الوحيد هو التحرّر من عبء النموذج الاقتصادي الوهمي الذي فرض علينا ويعطي الأولوية للحجر على البشر. نسف وهم سوق العقارات (وحكم المصرف) من خلال فرض ضرائب وقوانين إشغال وحوافز تشغيل له حسنات عدة نناقشها لاحقاً ومنها استقطاب العملة الصعبة جداً هذه الأيام.
الشرق الذي ينبغي أن ننفتح صوبه ليس في البوكمال ولا يكون بخصخصة شركة الخلوي لشركة هواوي بدلاً من شركة دويتشه تيليكوم، وإن كانت تكنولوجيا الاتصالات الصينية تفوق تلك الألمانية. «الشرق» الذي ينبغي أن ننحاز إليه هو سكان المدينة والأطراف الذين صمدوا في وجه سياسات اقتصادية ومالية عدائية على مدى ثلاثة عقود، وهذا يبدأ عند الحدود المأهولة لوسط عاصمة الوهم، أي في الجميزة والقنطاري وزقاق البلاط والخندق الغميق طبعاً.