لا يوجد أيّ أثر للعمال قرب معمل «غندور»، الذي يُستدلّ عبره إلى الطريق نحو ضهور الشويفات، وصعوداً إلى دير قوبل. ليس هناك أي وظيفة بصرية للمعمل، سوى أنه يذكّر بنضالات العمال في السبعينيات، وسوى أنه معلم كبير، في الطريق إلى «كعب» جبل لبنان التاريخي. لا أثر للعمال قرب المعمل، ولا أثر لأصواتهم، لكن القصة متاحة للجميع، كما في الأغنية: جموعٌ تسيرُ في شوارع المدينة عرَّاها جحيمُ المعامل. الطريق إلى أعلى نقطة في الشويفات ليست شاحبة، لكنها هادئة، وقد انسحب أهل الطريق من الطريق، واحتشدوا. كان مأتم الشهيد علاء أبو فخر كبيراً.في مأتم الشهيد علاء أبو فخر ستصادف ليبراليين سابقين لا يعرفون كم أفرطوا في ليبراليتهم. وقد يصدف أن بينهم من كان شيوعياً تخلى عن شيوعيته بعد الحرب، ثم اكتشف أنه يريد العودة متأخراً بعد السِّلم. بعد غفوة التسعينيات الطويلة، بعد النوم في عسل الرأسمالية، عاد يتحدث عن الطبقات وعن العدالة الاجتماعية. البلد (مش) ماشي. والشغل (مش) ماشي. تلفزيون المستقبل أسدل الستارة، والحريري استقال من تاريخ أبيه. استقال الحريري من نفسه، لأنه بالنسبة إلى اللبنانيين ليس سوى رئيس للوزراء، ورث المنصب من أبيه، وليس إلا رئيس كتلة نيابية، ورثها عن أبيه. هو في ذلك يتساوى مع كثيرين. الليبراليون السابقون الذين جاؤوا إلى عزاء علاء أبو فخر، جاؤوا ليرثوا شيئاً من شجاعة الخروج عن السائد، وعمّا يَشيع.
قد تصادف حريريين أصيلين. يحنّون إلى ساحات بائدة، وشعارات فقدت صلاحيتها منذ وقت طويل. لكنهم أرغموا على السير خلف شعارات الشهيد، وأن يضعوا أوهام الساحات القديمة جانباً. أن يقتنعوا بأنه يتوجب عليهم أن يخرجوا من أجل أنفسهم هذه المرة. وستشاهد أيضاً قادمين من ذلك الزمن، مثل مي شدياق وجورج عدوان ومروان حمادة وغازي العريضي. هذا الزمن الذي قفز عنه علاء أبو فخر خلال حياته، وبشهادته صار هذا زمناً بعيداً. هناك زمن جديد، ليس وردياً بالضرورة، والمأتم أصلاً بحد ذاته تعبير عن ظلم كثير. لكن هذا الزمن الذي أمامنا ليس امتداداً إلا لنفسه. زمن يريد أن يكون جديداً. غياب الأعلام الحزبية في المأتم لا يعني غياب الحزبيين، فالشهيد نفسه كان حزبياً. وليس البلد منقسماً بين حزبيين وغير حزبيين، بل من هناك، على التلة العالية في ضهور الشويفات، يبدو البلد منقسماً بين زمنين. بين ساحات جديدة، وبين متسللين من الماضي إلى حاضر لا يتسع لتجاربهم الثقيلة.
وقد تصادف أشخاصاً آمنوا بالمقاومة ولا يزالون يؤمنون. لكنهم اكتشفوا أخيراً أنهم، مع المقاومة التي في خواطرهم، ينتمون إلى فضاء أرحب من فضاء الجماعة الطائفية. خرجوا من طوائفهم، من دون أن يخرجوا المقاومة من تحت جلودهم، وصعدوا الجبل. في التشييع كان هناك من جاء من أجل «رفيق» لم يسلّم عليه في حياته، ومثّل «آخر» مستحيلاً بالنسبة إليهم. بعدما وقفوا إلى جانبه على الطريق قبل أيام، وبعدما رددوا شعاراً مشتركاً، صار هذا الآخر هو أنفسهم. وليسوا بحاجة إلى اختراعه، بقدر ما أنهم بحاجة إلى اختراع أنفسهم، داخل الفضاء الجديد.
وقد تصادف شيوعيين، جاؤوا إلى الجبل الذي انقطعوا عنه بعد نهاية الحرب، بعدما كان حليفاً طويلاً. جاؤوا بلا حزبهم الذي تصحّرت أحواله وبلا عقائدهم التي استهلكوها في بيانات صحّرت ما تبقى. جاؤوا أفراداً، بكوفياتهم وأصواتهم فقط، مثّل علاء أبو فخر في لحظة استشهاده صورة لهم عن أنفسهم، وصوتاً يأتي من جبل بعيد. وستصادف اشتراكيين. وهناك الذين يتعاطفون بدرجات متفاوتة، فمنهم من يشارك الخاسرين العاطفة، ومنهم من يؤدي واجباً تفرضه حسابات الجماعة وتقاليدها. وهناك الذين يأتون للعزاء، مثل جميع المآتم هناك أهل وجيران ورفاق. لديهم تقاليدهم في العزاء وفي الرثاء. ومنهم من جاء معزياً احتراماً لتاريخ الطقوس وعملاً بها، ومنهم من تجاوز ذلك، فجاء لأن الراحل كان عزيزاً وقريباً. رغم كل شيء فإن أكثرية الذين ستصادفهم في المأتم، مثل غالبية الذين تتشكل منهم المآتم. الجماعة الأهلية، التي تلتف حول تضامنها، وتعلن في التفافها استمرار قلقها، ومعرفتها الحصرية بالراحل. وقد أعلنت شعورها بالانتماء إليه، أكثر من حاجته هذه المرة إلى الانتماء إليها.
شرايين الجبل المتصل بعضها ببعض سمعت أمس صوتاً واحداً، يخرج من قلب مكسور


وهناك خاسرون حقيقيون. لا يمكنهم تقبل الموت كخبر عاجل. خاسرون حقيقيون لا يهمهم التصنيف، ولا تهمهم المواقع، وما تكتبه الصحف، وما يتلى على منابر الرثاء. من هو الأمل، وما هو اليأس، وما الفارق الذي تحدثه استقالة ذاك الوزير، أو بقاء هذا النائب. لا يهمهم من يأتي، ومن يذهب، ومن يحضر مع مرافقة، ومن يحضر بدونها. هذه وظيفة المتبقين، ألا يتكرر الألم. الخاسرون ليس لديهم متّسع من الوقت للتفكير إلا بالذكريات. فجأة وجدت والدة علاء أبو فخر نفسها أمام الذكريات. وزوجته وجدت نفسها محاطة بالكاميرات، وليس لديها سوى فاجعتها. ليس مهماً، بالنسبة إلى الخاسرين الحقيقيين، ألا يرحّب الحاضرون بالوزير أكرم شهيّب، وأن يستهجنوا مجيء مي شدياق، وأن تُردد تعابير مرحبة بالنائب تيمور جنبلاط، ولا يهمّهم رأي أحد، وما يكتب، وما يقال على المنابر. ما يهمّهم هو حزنهم. فما يكتب في القصائد يغلق مع بقية الأوراق. المرثيات تصدح والمعزون يلتزمون بالطقوس، لكن الوجوه لا يمكن إغلاقها. تبقى مفتوحة بانتظار التعب من الوقت. العيون الخاسرة لا يمكن إسكاتها، سيحدث بها ما حدث بعينَي والدة علاء أبو فخر وبعيون زوجته والذين عرفوه عن قرب.
معمل «غندور» يدلّ العائدين على أنهم لم يخطئوا، وأنهم وصلوا إلى الطريق السريع. الطريق إلى بيروت عبر الحدث، حيث يقع مفترق بعبدا يميناً، والضاحية يساراً. شرايين الجبل المتصل بعضها ببعض سمعت أمس صوتاً واحداً، يخرج من قلب مكسور، وعينين تحلمان بوطن جديد.