اللقاء الذي تخلّلته مأدبة عشاء بين رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري ورئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل، جاء منفصلاً عن الواقع الداخلي. بدا أنه يعقد غداة الانتخابات النيابية: لا متظاهرين، ولا احتقان داخلياً يوصل إلى شفير الهاوية.يتصرف الحريري ــــ الممتنع أولاً عن عقد جلسة لمجلس الوزراء، ومن ثم المستقيل والراغب في العودة ــــ كأنه ضحية، وليس جزءاً من سنوات الاحتقان وسياسة نقدية واقتصادية ومالية ومنظومة حكم استمرت منذ ما بعد الطائف وهو وريثها بكل تداعياتها السيئة. وفي إعادة تلاقيه مع باسيل، شريكه في تسوية رئاسية ومالية ومشاريع دامت ثلاث سنوات، يحيي تسوية ثنائية، بعيداً عن ضغط الشارع الذي حاول تجييش جزء منه على خلفية المحافظة على صلاحيات الرئاسة الثالثة. تلاقى الرجلان على التبرؤ من أخطاء أساسية قاتلة، وقعت فيها حكومتا الحريري الأولى والثانية في عهد الرئيس ميشال عون. وهما حالياً يعدّان العدّة لحكومة مغانم جديدة، ويتقاسمان جلد الدب قبل اصطياده، ويوزعان الحصص مراهنَين على تعب المتظاهرين وتجييش الشارع للضغط لفتح الطرق، لتتحول عنواناً وحيداً في برنامج الحل، لا تقديم إصلاحات عاجلة وتغيير أسلوب إدارة الحكم.
ما يحصل سياسياً مما يعتبره بعض المتابعين لحركة بيت الوسط خطوة أولى لتحقيق خرق، لا يعكسه الواقع السياسي والأمني العام. لأن تداعيات يوم الأحد، سواء صباحاً في بعبدا أو مساءً في ساحات التظاهر، تعطي مؤشرات مقلقة بأن الأمور الى تصعيد خطير بدأ يلقي بثقله على كل المرجعيات الأمنية. ولأول مرة، تعود كلمات المخاوف من الحرب الأهلية الى التداول في حلقات سياسية ــــ أمنية تخشى من أي حادثة يمكن أن تشعل فتيل الانفجار. وهذا، بالتأكيد، لا يتحمّل مسؤوليّته المتظاهرون الذين يطالبون بلقمة عيشهم.
تواجه القوى الأمنية، منذ اليوم الأول، استحقاقاً يتعلق بمواكبة التظاهرات، ومن ثم فتح الطرق. الضغط الأميركي تحديداً والغربي عموماً لمنع سقوط نقطة دم وأي مواجهة أمنية مع المتظاهرين، قابله أمران: رغبة القيادات الأمنية جميعاً بعدم حصول أي مواجهة، بل محاولات استيعاب لمنع أي انزلاق نحو الاصطدام، وضغط العهد تحديداً لفك التظاهرات ومن ثم فتح الطرق. مع يوميات التظاهر، برزت إشارات يسمّيها الأمنيون «عتباً» من بعض السياسيين كالرئيس نبيه بري وحزب الله، وكل طرف لأسباب مختلفة. لكن كل هذه الإشارات إما أوضح الجيش خلفياتها وإما في طريقها الى أن تتوضّح تدريجاً مع جميع المراجع الرئاسية والقوى الحزبية التي يتواصل معها الجيش لوضع «النقاط على الحروف»، ولا سيما أنه وصلت الى مسامع الجيش انتقادات لعدم فتح الطرق وتسهيل قطعها في بعض الأماكن والسماح بتجاوزات للقوات اللبنانية والكتائب والتقدمي الاشتراكي، وأخيراً مناصري تيار المستقبل. لكن للجيش رواية أخرى تماماً.
حين بدأ فتح الطرق، كان الجيش يؤكد أن لا قرار سياسياً بفتحها عنوة. وهو لم يتلقّ منذ اليوم الأول أي قرار سياسي من هذا النوع، لا قبل استقالة الحكومة ولا بعدها، بل اتصالات من قوى وشخصيات تضغط في اتجاهات أمنية لا يمكن للجيش أن ينفذها. بحسب رواية المؤسسة العسكرية، «ثمة أطراف يريدون أن يكون الجيش في مواجهة الناس، وهذا لن يحصل. وهو لذلك تصرّف، أمس وقبله، «على القطعة»، أي أنه يريد تسهيل حركة مرور الناس وعدم التعرض للمتظاهرين في الوقت ذاته». ما جرى في اليومين الأخيرين من عرقلة حركة الناس في بعض المناطق، بعد رفض تأمين بعض الطرق الرديفة ولّد نقمة في أكثر من منطقة. بدأ الجيش فتح طرق خلدة وصيدا وجل الديب والذوق ومناطق أخرى متفرقة خارج بيروت. لكن كان جلياً أن قوى سياسية ووسائل إعلام تلفزيونية ركزت على منطقة جبل لبنان الشمالي، لأسباب تتعلق بإحياء عصبيات حزبية، «وهذا ليس الواقع، لأن القوى الأمنية عملت على فتح الطرق وتسهيل حركة المرور في بيروت وخارجها جنوباً وشمالاً وبقاعاً، وتواصلت مع المتظاهرين، ولم يكن الجيش وحده من يقوم بذلك». تضيف رواية اليرزة إن الجيش لن يتصرف عشوائياً، رغم محاولات تصوير ما حصل أمس أنه انتصار لفريق على آخر، ووضع الجيش يوماً في خانة المتظاهرين ويوماً ضدهم.
الجيش عاقب عنصر الحرس الجمهوري الذي حمل لافتة ضد النائبة ستريدا جعجع

خلاصة نقاشات يومية ومراجعات لخطط عملانية تتحدث عن إحاطة شاملة بالوضع يومياً وفتح الطرق بحسب ما تقتضيه الظروف، أي أنه لا يمكن للجيش أن ينفذ اقتحاماً أو يسبب أي اصطدام عشوائي مع فئات كبيرة من المتظاهرين، يمكن أن يريق دماءً. ما يحدث من تدافع واصطدام محدود طبيعي، والتوقيفات تحصل في صورة عادية ولا خلفيات لها إلا منع الجيش من القيام بمهامه ليطلَق لاحقاً الموقوفون. عدا ذلك، الأداء العام لا يزال مضبوطاً ونتيجته لا تزال قائمة منذ اليوم الأول، كل حركة عسكرية على الأرض مرجعها اليرزة وليس أي طرف غيره، والقرار حتى الآن لا يزال هو نفسه بمنع سقوط أي نقطة دم، وهي العبارة الأكثر تداولاً في الأيام الأخيرة.
في المقابل، هناك تحدّ كبير أمام الجيش وإشارات قلق. التحدّي أن الجيش يرى أنه حقّق على مدى عشرين يوماً «إنجازاً» أمنياً، رغم أخطاء حصلت، بحفظ الأمن. فلم يهتزّ على إيقاع الحشود الشعبية في كل المحافظات. لكن هذا الإيقاع، الذي يعتب الجيش أن أحداً لم يوجّه له كلمة تقدير، بل كمّاً من الانتقادات، يحتاج الى كثير من الدراية من الآن وصاعداً، لأن العناصر العسكريين تعبوا أيضاً، ويواجهون حالات متشددة من الضغط عليهم، ومستنفرون طول اليوم. وكذلك يحاولون معالجة أي تفلّت داخلي له علاقة بالتظاهرات، لأن التدابير المسلكية قائمة على كل عسكري يخرج عن القانون، وآخرها ما اتخذ من تدبير مسلكي بحق عنصر الحرس الجمهوري الذي حمل لافتة ضد النائبة ستريدا جعجع.
أما القلق فمن التجاذبات السياسية، علماً بأن مكاشفة إيجابية حصلت بين بعبدا واليرزة، رغم التلميحات بشأن إحداث تغيير في الجيش باتت على كل شفة ولسان. وهذا ليس سهلاً حصوله في ظل التركيبة السياسية والمظلّات الدولية والداخلية، علماً بأن محاولات إزالة غطاء شرعي عن الجيش يعزّزها الانفصال الحادّ بينه وبين وزير الدفاع. وهذا يطرح إشكالية مستقبل حقيبة الدفاع في أي حكومة جديدة بعد التجربة النافرة الحالية.