الانقسام السياسي يشتدّ حول مستقبل واقع السلطة في البلاد. والتوترات على الأرض لم تعد متّصلة بعنوان واحد. حتى تدخلات القوى السياسية في الحراك الشعبي صارت أكثر برمجة، كما هي حال القوى العسكرية والأجهزة الأمنية. وبالتالي، عاد السؤال الى المربع الأول: الى أين يتجه الحراك؟نحن أمام خريطة متنوعة من المنخرطين، بفعالية أو بدعم أو تبنٍّ. وكما في كل حدث في لبنان، بين هؤلاء من يكلّف نفسه ممارسة فوقية أخلاقية تجاه الآخرين، يستعجل تولّي فضحهم أخلاقياً وقيمياً، فيما يشكو في الوقت نفسه ممن يتولّون فحص دمائه الوطنية، فضلاً عن أن غالبية هؤلاء أصبحوا خبراء في سوسيولوجيا الجماهير. ومن هؤلاء:
ــــ أصحاب السقوف السياسية الخلافية الذين لا يتوقع أن يتراجعوا عن مواقفهم. مع افتقاد هؤلاء قاعدة شعبية متماسكة، تصبح مهمتهم اصطياد الفرص. والحراك الشعبي، بهذا المعنى، فرصة أو صيد ثمين. وبين هؤلاء قوى سياسية ومجموعات وشخصيات متنوعة، تشترك جميعها في سرقة شعارات الناس المقهورين: كيف يمكن أن نتخيّل، مثلاً، فؤاد السنيورة يصدر بياناً يشدّ فيه على أيدي الشباب والشابات ويدعوهم الى البقاء... هل يمزح هذا الرجل معنا، أم أنه لا يخشى هذا الحراك؟
ــــ جماعات الـ«ان. جي. أوز» الذين ينتشرون كالفطر في حياتنا، من دون أن نعرف كيف يعيشون ومن أين يحصلون على مواردهم وكيف يتم خلقهم وتوزيعهم كالذباب. هؤلاء جزء من هذا الشعب العظيم ويعانون من مأساة فشل الدولة. لكن، ما هو جدول أعمالهم في الحراك: إصلاح سياسي عام يحدّ من تحرّكهم من دون قيود قانونية كما هي حالهم اليوم؟ أم إصلاح ضريبي يفرض عليهم دفع متوجّبات باعتبارهم مؤسسات عاملة لا جمعيات لا تبغي الربح؟ أم قانون مراقبة التمويل الذي يوجب عليهم تبرير مصادر تمويلهم التي تأتي في غالبها من الخارج؟...
ــــ جيش المحبطين. وهؤلاء تجدهم في أندية صغيرة مغلقة ومتنوعة، سياسية وثقافية وفكرية واجتماعية. وهم يمثلون مِهَناً وحِرَفاً مختلفة. لكنهم يجتمعون في تنظيم واحد اسمه: قادة الجمهور الافتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويصدف أن غالبية هؤلاء، والله وحده يعلم سبب الصدفة، لا يعانون البطالة، ولا يواجهون مشكلة توفير تعليم جيد لأبنائهم أو طبابة ومأوى ومأكل ومشرب. وهم من الفئة القادرة على السفر مرات عدة الى الغرب، وكل ذلك طبعاً بدعوات من غربيين يريدون الاستفادة من خبراتهم في علوم السياسة والإدارة والإنتاج.
ــــ المتقاعدون سواء كانوا أفراداً أو جماعات، من قوى حزبية وأطر نقابية ماتت بعدما هرمت، علماً بأن هؤلاء لا يقبلون فكرة التقاعد والتحوّل الى مواطنين أصحاب خبرة. بل يصرّون على تلبّس دور القائد، والتصرف بسلوك شاب أصغر من أبنائهم، متذرّعين بأنهم في حالة تجدد دائم. لكنهم يرفضون الإجابة عن السؤال الأساس: لماذا لا تنجحون مرة واحدة في تحقيق هدف منطقي حتّى بتُّمْ أساتذةً في تعميم تجارب الإحباط. ولكل من هؤلاء طريقته في مقاربة الحراك، والتصرف بأبويّة مفرطة حيال ما يجب طرحه من عناوين وشعارات وأهداف وآليات عمل، متجاهلين حقيقة أن الزمن ليس زمنهم في الإنتاج، وإن كان الزمن يبقى زمنهم في العيش طالما هم على قيد الحياة. لكن الأساس، عندهم، هو رفض تولي غيرهم أمر القيادة أو حتى التجربة والمحاولة.
من تجمعوا امام المصرف المركزي واقتحموا مقر جمعية المصارف الاكثر فهما لحقيقة الازمة ومكامن الخلل


ــــ جيل العاطلين عن العمل من المهنيين الذين أصابتهم عوارض «الانتفاخ الفكري المبكر» بعدما استمعوا الى محاضرة أو قرأوا كتاباً أو كتبوا نصاً ركيكاً، مانحين أنفسهم موقعاً أعلى من أبناء جيلهم. هؤلاء، في لحظة كلحظة الحراك، يقرّرون أن يستنتجوا اللاوعي الخاص بالمتظاهرين، ويضعون أهدافاً لا يراها غيرهم، ويفترضون أنهم يعرفون مقاصد الناس حتى من دون أن تعلن. ولأنهم ممن أصيبوا بداء النكسة الدائمة، فإن الانتقام من الآخر هدفهم الدائم. وليست مُهِمّةً الوسيلة أو الطريقة، ولا من يدفع الثمن.
أما الأكثر صلابة، ولو كان الأقل فعالية، فهو ما يخص أصحاب القضية الأساسية. أي المنضوين في الحراك عن وعي متكامل، وعن ثقة بأن التحرك والعصيان، أو العنف بأشكال مختلفة، هو ما يقود الى تحقيق تغيير ولو جزئي. وهؤلاء أكثر تشابهاً على المستوى الطبقي والاجتماعي. وأكثر التصاقاً بالهوية الوطنية، وشديدو الحساسية إزاء التدخلات الخارجية. وهم من يتجنبهم الإعلام المنافق، فلا تجدهم يوماً يديرون حواراً عبر شاشة عامة أو في منبر عام. ويراد لهم، في المواجهة، أن يتقدّموا الصفوف، والبقاء في خلفية المشهد عند النقاش والاستثمار. وهؤلاء هم الأقلّ تذمراً وتطلّباً وادّعاءً. والأكثر ثباتاً عندما تقترب لحظة الحقيقة، والأكثر فهماً لحقيقة الأزمة ومكامن الخلل، ويعرفون العناوين الحقيقية للفساد بكل أشكاله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية. وهم من شاهدناهم خلال اليومين الماضيين، ممن تجمعوا أمام المصرف المركزي، أو الذين اقتحموا أمس مقر جمعية المصارف. وهم أنفسهم من شاهدناهم في الشوارع يرفعون مطالب الأساتذة والموظفين وما تبقى من طبقة عاملة مقهورة. لا يغرقون في لعبة الشعارات الفارغة والقصائد الوطنية السخيفة كسخافة لبنان الكبير، ولا يسألون بعضهم في التظاهرات عن هوياتهم الطائفية والمناطقية والمذهبية، ولا يتحدثون عن العيش المشترك، ولا تغشّهم حشود المتسلّقين على آلام الناس، ويصرخون بالعلم والفكرة والطرح منذ سنوات ضد الفاسدين الحقيقيين، ولا يغرقون في لعبة التعميم الهادفة الى تجهيل الفاعل. هؤلاء هم، في نهاية الأمر، من يُعوّل على دورهم في إعادة الاعتبار الى الموقع المنطقي لحراك، يجب أن يختبر نفسه مرة بعد مرة، قبل أن يتبلور قوة لها فكرتها وقيادتها وإطارها وناسها الذين قد لا يملأون كل الساحات، لكنهم سيحتلون كل البيوت العادية، ويمكنهم رفع شعار التغيير الحقيقي.
ليس لدينا أمل سوى في إعادة تثبيت هؤلاء طرفاً محورياً في الساحات وفي غرف الاجتماعات وفي قاعات القرار. أما في ما يتعلق بغيرهم، فلا داعي لكل الكذب القائم على لسان حشود من الفاسدين المتلبّسين صفة الثوار!