لأنني أشاطرك الولادة والنشأة في حي النبعة، أحد بؤر حزام البؤس حول بيروت قبل الحرب الأهلية وبعدها، ولأنني رغم الاختلاف الأيديولوجي بيننا أشاطرك الانتماء الى فكر المقاومة ضد الظلم والقهر والفقر والاحتلال، ولأنني أرى فيك قائداً لم تنجب أمتنا العربية - وليس شعبنا اللبناني فحسب - مثيلاً له منذ عقود طويلة، أتوجه إليك بكل محبة وتقدير وصراحة ووضوح.أودّ بداية، يا سيد، أن أقول إن التسوية التي اصطلح على تسميتها بـ«الرئاسية» كانت مجحفة كثيراً للمقاومة، لأنها، بحسب ما ظهر منها، أعطت الرئاسة الأولى لحليف المقاومة العماد ميشال عون والرئاسة الثانية للشيخ سعد الحريري، ولكن ما خفي منها هو انتزاع غض نظر المقاومة عن السياسة المالية والاقتصادية للحكومة، أي عن منظومة الفساد الحاكمة في البلاد، مقابل أن تغض هذه المنظومة النظر عن سلاح المقاومة وتعطي لوجوده غطاءً رسمياً. الإجحاف الأول، هنا، هو اعتبار أن سلاح المقاومة لفئة أو لحزب أو لطائفة وليس قوة للوطن بكل فئاته وأحزابه وطوائفه. والإجحاف الثاني هو تحويل المقاومة الى حارس لهيكل الفساد بكل مكوّناته، إن لم يكن طوعاً فبقوة الأمر الواقع، إذ إن المقاومة، بحكم طبيعتها وتركيبتها الطائفية والمذهبية، إن توافرت لديها نية محاربة الفساد (وأنا أجزم بأن لديكم هذه النية)، لا تستطيع أن تبدأ إلا من بيئتها المذهبية والطائفية، وإلا تصبح محاربتها للفساد مجرد كيدية طائفية ومذهبية. وهذا ما أثبتته تجربة النائب حسن فضل الله. فكيف للمقاومة أن تنادي بمحاربة الفساد في طوائف أخرى، بينما في بيئتها من يمثل العمود الفقري لمنظومة الفساد المستشري في البلاد منذ 27 عاماً؟
بناءً على هذه التسوية «الرئاسية» المجحفة للمقاومة، استُدرجتم يا سماحة السيد الى القبول بما لا تطيقون من تركيبة حكومية ضمّت، في ما ضمّت، جماعة السفارات المناهضة للمقاومة جهاراً نهاراً، وسياسة مالية واقتصادية قادت البلاد الى أكثر من نصف الطريق نحو هاوية الفقر والجوع والعوز والبطالة والإفلاس، الى أن بلغ السيل الزبى باستخفاف هذه التركيبة بالشعب، استناداً الى اعتبارها أنها تمثل غالبيته العظمى من خلال ضمّها المكوّنات الكبرى للطوائف. فكانت خطتها الضريبية الظالمة التي لو قُيّض لها أن تقرّ لطاولت منقوشة الفقير قبل سيجار الغني، ولاقتطعت من راتب الفقير من دون المساس بأرباح المصارف والشركات الكبرى. وجاءت القشة التي قصمت ظهر البعير بقرار من وزير الاتصالات (وافق عليه وزراء المقاومة في الحكومة) فرض ضريبة على مكالمات الواتساب، وهي خدمة مجانية من المنشأ الخارجي لا يحق للدولة اللبنانية أن تتقاضى عليها ضريبة أصلاً. فنزل الناس الى الشارع بأعداد وشعارات وتعددية طائفية ومذهبية وحزبية لم يشهدها تاريخ لبنان الحديث. وكانت إطلالتكم الأولى يا سماحة السيد، وهنا أصدقك القول بأني استمعت اليكم بإمعان ووضعت يدي على قلبي، لأنني استشعرت أن كميناً يعدّ للمقاومة، وأنها ماضية للوقوع فيه بملء إرادتها وعن غير دراية، لذلك سارعت الى إبلاغ أحد نوابكم بمخاوفي وهواجسي بكل صراحة، وأنا على ثقة من أن هذا النائب، وهو صديق صادق ومؤمن مخلص للمقاومة ونهجها، سيوصل الرأي الى دوائر القرار لديكم.
بين إطلالتكم الأولى والإطلالة الثانية، لم تتغيّر مطالب الناس ولم يتغيّر وجعهم ولا جوعهم، ولكن تغيّرت نظرتكم الى الحراك الشعبي. وإذ كنت أشاركك الرأي في أن بعض القوى والسفارات حاول بقوة الدخول على خط الحراك لحرفه عن مساره - وهذا أمر طبيعي في حراك شعبي بضخامة الذي كنا نشهده (وهذه القوى والسفارات موجودة مع ممثليكم على طاولة مجلس الوزراء وفي مجلس النواب)، لكنها لم تنجح. والهتافات التي أطلقت ضدكم يا سيد وضد المقاومة لم تتجاوز مجموعة صغيرة من المتظاهرين في منطقة جل الديب، وهي مجموعة تمثل من كانوا شركاء لكم في الحكومة وحلفاء لكم في كل الانتخابات النقابية، من نقابات المعلمين الى المهندسين والأطباء الى... إلخ. فإذا بالرد على هذه المجموعة الصغيرة في جل الديب يتحول، قبل إطلالتك الأخيرة، الى قمع همجي ودموي من أبناء المقاومة ضد المنتفضين في بيئتها الحاضنة في النبطية وصور، ما أدى الى سقوط جرحى، من بينهم من كان مقاوماً الى جانبكم أو أسيراً أو جريحاً، واستتبع ذلك بغزوة قام بها مجهولون بعشرات الدراجات النارية الى منطقة الاعتصام الأساسي وهم يرفعون أعلام حزب الله وحركة أمل، ووصل الأمر الى غزوة أخرى استهدفت معتصمي ساحة رياض الصلح وهم يهتفون باسمكم.
إطلالتكم الأخيرة، يا سيد، وضعت غصة في قلوب أنصار المقاومة ومحبيها وحاضنيها ممن لا يريدون لها أن تكون حارس هيكل الفساد في مواجهة بيئتها الحاضنة، وهي بيئة الفقراء وذوي الدخل المحدود من أقاصي البقاع الشمالي الى أقاصي الجنوب، مروراً بالضاحية التي بات بعض أحيائها مرتعاً للبؤس والعوز، وممن لا يرون في هذا الحراك الشعبي العظيم صناعة سفارات تتآمر على المقاومة. وهؤلاء، يا سيد، يرومون اعتذاراً عمّا ارتكبه بعض المسؤولين من أخطاء فادحة بحق المقاومة وبيئتها، وبحق المعتصمين، وأن تحاسب بقسوة من سوّلت له نفسه أن يضع المقاومة في مواجهة شعبها، بحسن نية أو بسوء إدارة، وأن يعمل على تخريب المعادلة الذهبية، «الشعب والجيش والمقاومة»، بالبلطجة الموصوفة التي مورست في ساحات الاعتصام، والتي لا تليق بأبناء المقاومة وليست من ثقافتهم وتربيتهم.
لأنني، يا سماحة السيد، اعتبر أن المقاومة نتيجة وليست سبباً، فإنني أيضاً اعتبر أن الحراك الشعبي نتيجة وليس سبباً. وكما أن المقاومة هي نتيجة طبيعية للاحتلال، فإن الحراك الشعبي - وإن تأخر - هو نتيجة طبيعية للظلم والقهر والفساد والسرقة. من هنا، أناشدكم أن تعيدوا المقاومة الى حاضنتها الشعبية والى موقعها الطبيعي الى جانب ألم الناس وجوعهم وصرختهم. وإن كانت موازين القوى وألاعيب السياسة تحول بينكم وبين ذلك علناً، ونحن نقدّر ذلك ونفهمه، فعلى الأقل لا تكونوا في الجهة المواجهة للناس، لأن المتآمرين على المقاومة هم الفاسدون في السلطة من أي طائفة أو مذهب، والمدافعين عن حقوق الناس هم بغالبيتهم حماة لظهر المقاومة وبيئتها الحاضنة.
بكل محبة