لم يكن موقف حسن نصرالله سهلاً صباح أمس. من البداية كنا نعرف أنّ سيد المقاومة سيكون أمام أحد أصعب خطاباته منذ زمن ليس بالقصير. ليس أنّه لا يمتلك المنطق والحجة والبلاغة والقدرة على الاقناع، ولا أنّه ليس في موقع الدفاع عن الحق كدأبه دائماً… بل لأنّه يتوجّه إلى شارع بلغ، لأوّل مرّة منذ عقود، نقطة اللارجوع في عصيانه، ولم يعد يصغي بسهولة. منذ ليلتين، والرأي العام في حالة غليان، والشبان والشابات من مختلف الانتماءات في الشارع، يعيشون أقصى حالات الغضب والتوتّر. كنا نسمع في الساعات الأولى على «الرينغ» هتافات عذبة من نوع: «هاي هيي وهاي هيي/ بدنا ثورة طبقيّة»، «يا للعار ويا للعار/ باعوا الليرة بالدولار»، «مش دافعين ومش دافعين/ حق سرقتكم مش دافعين». وفي قلب هذه الكتلة الغاضبة، احتل مكانه مكوّن مهم يضم المنحدرين من المدن والبلدات والأحياء والمناطق والقرى التي تشكل - في نظامنا الطائفي - مناطق نفوذ «الثنائيّة الشيعيّة». تلك الشريحة بدت الأكثر حضوراً وغضباً ويأساً وعنفاً في التعبير عن هذا اليأس، الى حد التجرؤ على محظورات كثيرة وشخصيات ورموز بصراحة ومباشرة جديدتين علينا. ها هو حزب الله إذاً يدفع ثمن شراكاته الإلزاميّة في هذه التركيبة الفاسدة، فيواجه حالة امتعاض في قلب «جمهوره».
(مروان طحطح)

الجماهير في الشارع تلعن الجميع، وبينها مجموعات يائسة تشتم وتخرّب وتضرم النيران. البلد المأزوم، على حافة الهاوية، أشبه بـ«موتور» فارط في سيارة هرمة، تسقط منه كل يوم قطعة جديدة! وأباطرة النظام يرون أن الحل هو في مزيد من إحكام الخناق على «الناس اللي تحت». لا ضرورة لتعداد المصائب، نكتفي بحالة الذعر الجماعي من انهيار الليرة والافلاس ومزيد من التجويع. نكتفي بالذكرى الكاوية: حرائق الأيام الماضية التي أشعرت اللبنانيين أنهم متروكون لمصيرهم الأسود، بلا دولة ولا قيادات تاريخيّة ولا مؤسسات. وسط كل ذلك، ارتكبت الحكومة حماقتها المليون، في معرض حرصها على تحييد الاغنياء، بأن تركت الوزير المتغطرس يورطها في تسعير خدمة المكالمات عبر الانترنت (و«الواتساب» تحديداً هاتف الفقراء الرسمي في لبنان)، ضمن صفقة جديدة يعمل معاليه على ترتيبها مطمئنّاً، من تحت الطاولة، بجسارة من لن يتعظ (ولم يشبع) من كل صفقاته الماضية. محمد شقير الذي أشعل الثورة، كل ما وجد ليقوله على التلفزيون، تعليقاً على مشاهد الاحتجاجات الأولى، قبل التراجع الجبان عن «نصبته» تلك: «هذا المنظر يهرّب السوّاح»، «الحكومة عم تعمل المستحيل للإصلاح!»، «هناك أياد خفية للأسف وراء النزول الى الشارع: ليست حركة عفويّة من الشعب الموجوع بصراحة»، «الواتساب من الكماليات»! «انتظروا لتروا ماذا سأعطيكم مقابل الـ 20 سنتس». وزير اتصالات هذا أم سانتا كلوز؟ عندما يكون لديك وزير مثل محمد شقير في الحكومة - وهو ليس إلا نموذجاً بين مجموعة تحف - أقل ما يمكن أن تفعله هو أن تضرم النار بكل لبنان وتستريح.
الآن الجماهير مشحونة بالعدائية ضد الجميع، قد احتلّت الساحات بعشرات الآلاف، في كل لبنان: «الشعب يريد إسقاط النظام». أي شعب؟ أي نظام؟ إلى جانب الكتلة الكبرى التي أعلنت التمرّد من خارج الطوائف والاحزاب ودكاكين السياسة اللبنانية البائسة، ورفعت شعار «دولة مدنية قائمة على العدالة اجتماعية»، سرعان ما تسلل الأربعون لصاً، يريدون اختطاف الغضب الشعبي. الشيخ سامي الذي لم يسأل أباه يوماً كيف راكم ثرواته في الحكم، يحب كثيراً دور روبن هوود! وها هو متظاهر من فتيان الكتائب يقول لمراسلة احدى المحطات: «المؤسسات اللي ما عم تمشي، سلموها للقطاع الخاص وشوفوا كيف بتمشي!». جان جوريز بك المعروف بنزعاته الاشتراكية، أرسل شبابه إلى الثورة مع اعلامهم طلباً لرأس جبران باسيل الذي يذكّرهم بماري أنطوانيت. لكنّه، بعد كبسة REFRESH، عاد فاعتذر من «الثوار»، مفضلاً تفادي خطر «الفراغ»! أما الحكيم جان فالجان الذي قرر أن يبيع بيته المتواضع في معراب، ومعاطف مي شدياق، في المزاد ليغطي عجز الموازنة، فاستنح اللحظة الثورية ليعلن الحرب على حلفاء سابقين لم يتركوا له شيئاً من التورتة الطائفيّة. من «اسقاط النظام» الى اسقاط «العهد» هناك شعرة واحدة، قطعتها مهرجانات حزبية، في مناطق «مسيحيّة» عدّة يوم أمس، وتجمعات أمام بعض السفارات اللبنانية في الخارج.
علق محمد شقير على مشاهد الاحتجاجات الأولى: «هذا المنظر يهرّب السوّاح»


صباح اليوم الثالث لـ«انتفاضة 17 أكتوبر»، كانت الجماهير، مشحونة بالعدائية ضد الجميع - «كلّن يعني كلّن» - ولم تعد تريد أن تسمع. فكيف سيخاطبها السيد حسن؟ القائد التاريخي الذي صرع الوحش الصهيوني وسحق الجرثومة التكفيرية، ويتحدّى المشروع الاستعماري، هو هنا في موقف دقيق. يجب أن نعترف أن الملف الاجتماعي كان حتى الأمس القريب «عرقوب أخيل» المقاومة في لبنان. ورغم التحولات الجلية في السنوات الأخيرة، فإن النظام الزبائني اللبناني، برماله المتحركة، لم يترك هامشاً كبيراً للمناورة أمام حزب الله. لكن، في أربعين الحسين قلب السيد حسن المعادلة، داعياً إلى تفادي «الانهيار والانفجار» معاً. ووضع الصراع في اطاره الصحيح. انها انتفاضة الشعب التي تعبر عن غضب الفقراء ضد سلطة الاستغلال والظلم. كما أعلن عن دعم الاحتجاجات، وابدى حرصه على حمايتها واحترام استقلاليتها. وكانت ادانته واضحة لارتكابات النظام على امتداد ثلاثة عقود، من دون التنصل من المسؤوليّة. وتضامنه كاملاً مع الحركة الاحتجاجية التي اعترف لها بانجازها العظيم. لكنّه حذّر المحتجّين من تجار الهيكل الساعين الى احتواء التحركات، او استغلالها، او المتاجرة بها! و حذّر القراصنة (لا المتظاهرين): لا تضيعوا وقتكم في محاولة «اسقاط العهد». ويا للهول، قال السيد، بواقعية سياسية، وبلهفة الأم الحقيقية التي لا تريد ابنها مفسوخاً، إنّه لا يؤيد استقالة الحكومة. وشرح بدقّة لماذا. فكان أن صدم موقفه بعض الذين استمرأوا لعبة «الثورة» والهواء المفتوح على الشاشات، ولعلّهم يفضّلون مشهد الانهيار العظيم. ماذا كان هؤلاء «الثوار الراديكاليون»، ورثة جان بول مارا، يتوقعون من السيد؟ أن يدعو إلى احراق السرايا الكبيرة؟

ماذا كان هؤلاء «الثوار» يتوقعون من السيد؟ أن يدعو إلى احراق السرايا الكبيرة؟


الباقي هو مهمّة القوى السياسية البديلة! الحركة الاحتجاجية لا بدّ أن تصقل هويّتها، وتصوغ برنامجها، وتبلور خطابها، وتفرز قياداتها الجديدة. هذه القوى بوسعها الضغط على الحكومة ومفاوضتها. إذا لم يفهم بعد أباطرة النظام، يجب ارغامهم: الحلول الانقاذية تبدأ من استرداد الأموال المنهوبة، والمهدورة. من وقف الهدر، وفرض الضريبة التصاعديّة، ومكافحة التهرّب الضريبي. ودعوة أعضاء «نادي الواحد في المئة» إلى انقاذ الاقتصاد الذي زاد ثرواتهم أضعافاً، والمصارف إلى تحمّل مسؤولياتها عن انقاذ النظام المالي الذي امتصّته حتى النخاع. من سن القوانين، وتفعيل الهيئات الرقابية، وفرض الشفافيّة… هذا بعض من برنامج الانتفاضة الشعبية التي ينبغي أن تعيد للحياة السياسية معناها، وتلعب دورها كسلطة مضادة. اليوم ينزل الشيوعيون إلى الشارع، في اطار تظاهرات ثلاث تصب في رياض الصلح، كان الحزب قد دعا إليها قبل الاحداث الأخيرة. ألا يفترض بقوى اليسار، قيادة الاحتجاج وتنظيمه - بدلاً من تركه للفوضى والهواية والمنظمات غير الحكومية - باسم معركتنا الطويلة النفس لتغيير النظام اللبناني؟