هذه المرّة أيضاً، «أنتينات» وليد جنبلاط تسبق غيره. أو ربما هو الأكثر شعوراً بالفزع. الأرض تميد تحت قدميه. هو أحد أبرز ممثلي الطبقة الممسكة بالمال والثروة في السلطة. خرج أمس بلغة هي أقرب إلى التهديد. لوّح بقلب الطاولة، لأنه لا يريد تحمّل مسؤولية الخراب الذي أوصل، مع شركائه، البلاد إليه.المعركة اليوم تدور حول عنوان واحد: من سيدفع كلفة الخروج من الأزمة، أو على الأقل، كلفة عدم الانهيار. قرار فرض ضريبة على اتصالات الواتساب (وباقي تطبيقات الاتصال عبر الإنترنت) كان التعبير الأوقح عن رغبة طبقة الـ 1 في المئة من اللبنانيين، المحتكرة للثروة، عن نيتها تحميل الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدخل كلفة الأزمة. فهذه الضريبة هي واحد من عشرات الإجراءات التي يُراد تطبيقها، تحت مسمى «إجراءات قاسية»، أو «غير شعبية»، وتقدّم على أساس أنها الحل الوحيد للخروج من الأزمة. ضرائب تطاول عموم الناس، كما لو أنهم متساوون في الثروة، وفي الاستفادة من «صعود الأزمة» على مدى 3 عقود. بلغت وقاحة الطبقة إياها أيضاً حد اقتراح رفع سعر الكهرباء عبر إلغاء الدعم الحكومي. كان ثمة مقايضة «غير معلنة»: تدفع الأسر فاتورة اتصالات هي من الأغلى في العالم، في مقابل دعم الكهرباء. أتت «ضريبة الواتساب» بعد اقتراح رفع سعر الكهرباء، لتقول للبنانيين إن طبقة الـ 1 في المئة لم تعد تقبل بتلك المقايضة، رغم ما فيها من ظلم للاقتصاد وللناس الذين يدفعون فاتورتين للكهرباء. يريد الحاكمون رفع سعر الكهرباء. وبدل خفض كلفة الاتصالات، قرروا زيادتها! لا حدّ لوقاحة هذه الطبقة التي راكمت الثروات طوال سنوات، ولا تريد اليوم التخلّي عن أي جزء من امتيازاتها، ولا عن نيتها مراكمة المزيد من الثروة، على حساب باقي الطبقات. ثمة عملية نهب منظّم، ومقونن، تعرّض لها اللبنانيون طوال عقود، عبر نموذج اقتصادي لا يؤدي أي غرض سوى تركيز الثروة بيد القلة. وهذه القلة نطق وليد جنبلاط باسمها: فليتحمّل غيرنا المسؤولية. هو كلام أقرب ما يكون إلى التهديد الذي لطالما ردده أقطاب الطبقة الحاكمة: لا خيار بديلاً من نهبكم سوى بالانهيار. قالتها بوضوح وزيرة الداخلية ريا الحسن، التلميذة النجيبة لفؤاد السنيورة: «حتى لو أتت حكومة ثانية، فستطبّق الإجراءات نفسها»!
لكن أبسط قواعد الاقتصاد، وأبسط التجارب المعتمدة في الدول الرأسمالية، تكشف وجود بدائل.
«الإصلاح» (وهو إصلاح للنموذج المعتمد، لا تغيير ثوريّ) يبدأ من خطوات ثلاث:
ــــ خفض الدين العام. بكلام أوضح «قص الشعر»، أي خفض حجم الدين العام، ومصادرة جزء من الودائع التي تراكمت بفعل أرباح هائلة حصل عليها كبار المودعين من «لعبة» الدَّين. كلما أتى أحد ما على ذكر هذا الأمر، يُواجَه بكلام أبله، وبغشّ الناس عبر القول إنه سيدمّر الاقتصاد وسيؤدي إلى هروب الودائع والرساميل والاستثمارات! وكأن بقاء النموذج الحالي أمر مفيد وصحّي ومنتج ويحسّن حياة الناس ويضاعف ثرواتهم ويحقق عدالة اجتماعية! وكأن خيار «قص الشعر» لم يُعتمد من قبل دول رأسمالية، وبرضى، بل أحياناً بطلب، من «المجتع الدولي» إياه (عام 2013، صادرت قبرص جزءاً من الودائع الكبرى في مصارفها. في بعض المصارف القبرصية، صادرت الدولة نحو 50 في المئة من بعض الودائع).
ــــ إقرار نظام ضريبي جديد، يعتمد الضريبة الموحّدة على دخل الأسرة. وهذا النظام الضريبي، المعتمد في الكثير من الدول الأوروبية، يُرفع في وجهه في لبنان أن السرية المصرفية تحول دون تطبيقه. السرية المصرفية غير المطبقة في وجه العاملين في المصارف، ومصرف لبنان، والنيابة العامة، والسلطات الأميركية، يُراد تطبيقها حصراً في وجه وزارة المال (سلطة الضرائب)، لإبقاء لبنان جنة يتهرّب فيها كبار المودعين من دفع ضرائب عادلة على دخلهم الذي يحصّلونه من دون أي عمل، وبلا أي مخاطر استثمارية. الضريبة الموحدة، التصاعدية، على دخل الأسر، تحول دون أن يدفع عامل ضريبة بنسبة أعلى مما يدفعها ثريّ لا يعمل، ويستفيد من لعبة الدَّين العام لمراكمة ثروة «لولد الولد».
ــــ إعادة حاكم مصرف لبنان إلى دوره الطبيعي، مسؤولاً عن السلطات النقدية، وخاضعاً لمساءلة الحكومة والمجلس النيابي، لا المتحكّم الوحيد بالنقد والمال والاقتصاد.
هذه الشروط الثلاثة هي الضرورية لربح المعركة الحالية، معركة «من يدفع ثمن التصحيح والخروج من الأزمة ومنع الانهيار». ما جرى أمس في الشارع هو أول حركة يقوم بها أبناء الطبقات الدنيا والوسطى في وجه الطبقة الحاكمة، دفاعاً عن اللحم الحي الذي يُراد له أن يُقص، بلا تخدير. هذه المعركة لا يمكن أن يخسرها الناس. فعدم الفوز بها يعني أن نقضي أعمارنا، وأعمار الأجيال المقبلة، راضين بإقفارنا لحساب من احتكروا الثروة طوال 100 عام من عمر الدولة. طبقة الـ 1 في المئة تحظى بالتمثيل الأقوى داخل السلطة السياسية، وفي الإعلام الذي يمارس التضليل والتجهيل، عبر التصويب الدائم على المكامن غير الصحيحة للخلل. صوت الآخرين غير مسموع كما يجب. ما جرى في الليلة الماضية هو أول تجربة، منذ سنوات، لإيصال الصوت العالي. أسوأ ما يمكن أن يجري اليوم وغداً هو الاكتفاء بتراجع محمد شقير وشركائه عن «ضريبة الواتساب».