حاولتُ جاهداً البحث في ذاكرتي عن لقب للرئيس نبيه برّي لا يكون متداوَلاً من كثرة ما أُسبغ عليه من ألقاب. كتبتُ عنه، منذ سنوات، أنّه «الحرّيف» الأوّل في السياسة اللبنانية، وراسلتُ السيد حسن نصر الله، منتحلاً شخصيته دون أن أستأذنه، في واحدة من أكثر الرسائل واقعيةً بعد حرب تموز. تلقّيتُ منه اتصالاً يومها، قال خلاله ما لا يقوله أحد ممن أعرفهم من السياسيين اللبنانيين، الواقعين تحت وهج مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان في حينه.لا بدّ أن أعترف أنّني أرى في الرئيس برّي، خلال السنوات الأخيرة الممتدّة من العام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، شخصيةً متجدّدة تجبّ ما قبلها من خلافات وحروب، من آثار الوصاية السورية الأمنية والسياسية على لبنان. وهي وصاية لا يستطيع أحدٌ من السياسيين أن يتبرّأ منها أو من محاولة التقرّب إليها، ومن خطايا التواصل معها، ولو عن بعد.
بدأ «الحرّيف»، بعد هذا التاريخ، بتكوين حيثية جديدة لحركته، تكتيكياً واستراتيجياً، تاركاً للآخرين وهم أنّه يتمسّك بالتكتيك ويترك لهم الاستراتيجية.
ينفعل، وهو كثير الانفعال، من دون أن يقفل أبواب العودة إلى الهدوء. يخرج إلى الشارع المتوتّر ليلزمه بالتراجع. يقاتل من لا يطيق رؤية وجهه على الشاشة، تاركاً لنسمات الهواء الإيجابي ما يجعل الحوار بعدها ممكناً ومتاحاً، حتّى حين يعتمد نائبه في رئاسة المجلس «مخططات جامعة»، آخذاً في الاعتبار تراجع تأثير إيلي فرزلي على غيره، بسبب ارتفاع منسوب رعونة من يريد فرزلي التأثير عليه.
الأهمّ أنّه صار ممسكاً بتلابيب عقله المعلن والباطن (البعض يسمّيه عناداً)، بخلاف قناعاتٍ وخطاباتٍ وبياناتٍ من «حليفه» الجغرافي والطائفي، تاركاً لهم علنية الكلام، ولو إلى حينٍ، لا يطول في الأزمات حتّى ينتهي مضمون الحلّ على طاولة اقتراحاته.
صار واحداً من أهم أعمدة الحدود بين الدولة والسلاح غير الشرعي، إلى حين إقرار استراتيجية دفاعية وطنية. كذلك صار حَكَماً بين الوطنية اللبنانية وبين الانحياز المطلق لخيارات إيرانية تعلن احتلال العاصمة اللبنانية سياسياً، ومن طهران بالذات. وبين عروبة عميقة في ضميره، منفتحاً عليها من دون سعي إليها، وبين عواصم العرب المفتوحة له من دون تردّد. لا يغادر برج مراقبة ميزان المجتمع الدولي مهما تغيّرت الأحوال واحتدّت الانحيازات الإقليمية.
صار مجموعةً من المعايير الوازنة الثابتة، لا يمكن لأحد إلا أن يلجأ إليها، مهما بلغت قساوة الخلافات واشتدّت فوضى الجلسات النيابية عن حقّ أو عن باطل.
منذ اليوم الأوّل لمحنة الجبل، التي تحوّلت إلى أزمة حكم سنعاني آثارها لمدّة طويلة رغم مظاهر المصالحة أو المصارحة، أمسك «الحرّيف» ليس بصداقته التاريخية مع وليد بك فقط، بل الأهمّ أنّه جعل من معاييره الثابتة والوازنة، بوصلةَ مبادراته المتحرّكة يومياً، فعاد إليها الجميع، صاغرين، أمام توازن لم يقدروا على مواجهته أو تجاهله.
استرجع البعض رعونتهم، وبقي هو على ثوابت تحمي من أزماتٍ مالية واقتصادية تواجهها البلاد. يفنّدها كلّ يوم وربما كلّ ساعة وزير المالية حاملاً رسائله ومضيفاً إليها «حسن الأوصاف» لمكامن الخطر الشامل على اللبنانيين، خاصة في اتجاه الضاحية الجنوبية، المغطّاة بالتوتر الخطابي لغبار كسّارات الإسمنت، ومقرّات أخرى بدت عليها بين الحين والآخر مظاهر التردّد في الصمود، ولو المبرّر، تخوّفاً من مخاطر الانهيار الاقتصادي.
حملَت أكتاف «الحرّيف» الوطنية رعونةً دامت أسابيع طويلة، فأثبتت أنّها كلما مرّ عليها الزمن، ازدادت صلابةً هادئة لا يجاريها أحدٌ من الكبار أو من أطفال السياسة اللبنانية.
دامت أكتافُكَ على صحّتها الوطنية، يا دولةَ الرئيس.