اليوم تدخل «الأخبار» عامها الرابع عشر. رحلة طويلة حقاً، وسنوات خاطفة في آن معاً. فمن جهة شهدت هذه المسيرة الطويلة، في وقت قصير نسبيّاً، محطات ومنعطفات وتحولات، جنازات وولادات، شكوك واعادات نظر، قد توازي نصف قرن من الوجود. ومن جهة أخرى، نشعر أن عمراً كاملاً عبَر برمشة عين، حتى لم نكد ننتبه، ونحن منشغلون بخوض المواجهات، ومواكبة الأحداث، والتحايل على الصعوبات، واستبدال الأمل بخيبات فرضها واقعنا الشائك. عملنا، ولا نزال، تحت وطأة الهاجس الدائم الذي يسكننا، ألا وهو الوفاء لحلم البدايات، رغم معاكسات الريح أحياناً وتعقيدات المرحلة… إننا مؤتمنون على العقد التأسيسي الذي جمعَنا، ذات يوم من صيف 2006، تحت قصف نازيي القرن الحادي والعشرين، حول جوزف سماحة وإبراهيم الأمين، لنحاول اعادة اختراع الصحافة العربية…«اعادة اختراع الصحافة العربية»، من دون أي ادعاء أو تعال. بما نعرفه، وبما تعلّمناه على الدرب الطويلة، وبما عانيناه من نماذج وتجارب سبقها العصر، وبما نحمله من قيم ورؤى وتطلّعات: قيم العدالة ورفض الاستغلال الطبقي وهيمنة الرأسمالية المتوحشة. قيم اللاطائفيّة وشرعيّة التمثيل السياسي وتداول السلطة، وبناء دولة المواطن والقانون، وتحقيق التقدم، وتحرير المجتمع والأرض والانسان، ومواجهة الاستعمار ورفض التبعيّة، ومقاومة العدو الصهيوني حتى تحرير كامل التراب المحتلّ. اليوم، نعيد تأكيد كل ذلك، في قلب الصراع المحتدم الذي تشهده المنطقة، وقد يأخذنا إلى حرب مدمّرة، ولبنان على حافة انهيار النظام الاقتصادي الطفيلي المتوحّش والفاسد الذي يتحكّم فيه مقاولون وسماسرة، متحصنون بحكم الطوائف، خارج كل رقابة أو محاسبة.
«اعادة اختراع الصحافة العربية»، بالتواطؤ والتشارك مع دائرة واسعة من القراء والقارئات، في لبنان والعالم العربي. لقد نجحنا إلى حد بعيد، على وقع نعيق طفيليين من كل الاصناف، ورمينا صخرة في المستنقع الآسن. وساهمَتْ تجربتُنا في تغيير مسارات، وتطوير أدوات، وصارت مرجعاً لمن واكبنا أو أتى بعدنا. كما أخفقنا في حالات أخرى، أو وصلنا إلى طريق مسدود بحكم الظروف الثقافية والمهنية، السياسية والاقتصاديّة. نعرف أن الواقع ليس ورديّاً، وهل كان يوماً كذلك؟ نعرف أن ما انجزناه لا يساوي إلا جزءاً يسيراً مما نطمح إليه. نعرف أن التعامل مع هذا الواقع، من دون أن ندعه يغلبنا، قد يتطلّب تدويراً موقّتاً لبعض الزوايا، بسبب طبيعة الصراع وتعقيداته، وتفتت الرأي العام، وتركيبة المجتمع والنظام السياسي. نقف الآن تحت حمأة البراكين، في المنطقة العربية التي تصارع شعوبُها ضد الطغيان والمحو والابادة، ضد سرقة الثروات والحقوق، ضد أنظمة الانحطاط والاستبداد والخيانة. نعرف أيضاً أن علينا التعامل بهدوء وصدق ووعي نقدي، مع الردات والتشنجات والعصبيات التي خرجت من علبة باندورا بعد «الربيع العربي» المجهض. نعرف أننا أقوياء لدرجة تشغل بال دوائر السلطة في أميركا التي ترصد وتدرس وتبحث عن سبل تحريف خطابنا، واختراق وعينا.
«اعادة اختراع الصحافة العربية» في زمن التحدي الرقمي، ووسط مشهد الانحطاط البائس لمهنتنا. الصحافة العربية، مع بعض الاستثناءات المضيئة، لم تعد تخضع لقواعد وأصول، بل تفتقر لمواصفات الجودة والموهبة وللتقاليد الديمقراطية، ولنزعة التجديد والانفتاح والابتكار، ولشرط الاستقلالية والنزاهة والاتساع للنقد والاختلاف. كل مرّة يطل مشروع جديد، نترقّب بحماسة هذه المنافسة التي تغري أي صحافي، وتصنع نهضة اعلامية… لكن الخيبات تتواصل! لذا لم يعد أمامنا إلا أن نتنافس مع أنفسنا، ونرفع المستوى لنكون على مستوى قرائنا، ونشتغل على توسيع قاعدتنا وتعزيز النقاش والكشف عمّا يخاف منه أو يتفاداه أو يمعن في تزويره أبواق السلطة الطائفيّة الفاسدة والتابعة.
اليوم تطفئ «الأخبار» شمعتها الثالثة عشرة، في مقرنا الجديد المشرّع على الضوء والمستقبل. كيف يحتفي المرء بالمناسبة وسط هذا المشهد المتصدع؟ على المكتب الريشة الحمراء التي تركها جوزف سماحة تذكّرنا أن «الأخبار» التي صدر عددها الأوّل يوم انتصار المقاومة عام 2006، وُجِدَت لتبقى. وتذكّرنا بأن لدينا إرثاً عظيماً نستند إليه، وتحديات تنتظرنا، وإنجازات مطلوبة منا كي يبلغ المشروع تمامه.