استمر الوضع على ما هو عليه، إلى أن أصدر مجلس بلدية بيروت، قبل ثلاثة أسابيع، قراراً يشرعن وجود «المعلومات». يومها، عرض العضوان العونيان في المجلس، سليمان جابر وجو طرابلسي، أن يتسلّم الجيش اللبناني هذا المركز «حتى لا يتحكم جهاز أمني واحد بقرار العاصمة، وحتى لا تستعمل المعلومات المجمعة في هذه المراكز لمآرب غير أمنية أي سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً». على الأثر، ناقش وزير الدفاع الياس بو صعب الأمر مع رئيس الحكومة، طالباً أن يتسلم الجيش المركز الثاني عبر الاستناد إلى قرار تكليف الجيش حفظ الأمن والنظام على كامل الأراضي اللبنانية، وهو ما قابله الحريري بالرفض قائلاً: «تركلي بيروت ما بدي حدا يفوت عليها». اللافت هنا أن الحريري لم يناقش بو صعب من منطلق صلاحيات الأجهزة الأمنية، بل من منطلق طائفي وسياسي. ويقول الحريري بشكل ضمني إن الجيش اللبناني «حدا» لا ثقة له فيه ويرفض وجوده في بيروت وكأنه ليس القوة العسكرية النظامية في البلد. وعليه لا يريد أن «يدخل الجيش» إلى بيروت، رغم أن للمؤسسة العسكرية مراكز وثكناً عديدة في العاصمة. وفي مقابله، يأتي طرح تسليم المركز الثاني للجيش، من منطلق طائفي سياسي أيضاً، على قاعدة عدم الثقة بجهاز أمني «تابع لطائفة أخرى». وتشير مصادر الحريري إلى «عدم وجود أي مبرر لتسليم الجيش مركز تحكم بكاميرات المراقبة، وأن ذلك من خارج مسؤولياته، بل من مسؤولية قوى الأمن الداخلي». تضيف المصادر أن «قوى الأمن تحتاج هذه الكاميرات لممارسة صلاحياتها في إطار مكافحة الجرائم، بالسرعة المطلوبة، وخاصة في مجال السرقة والنشل، وهي جرائم ليست من صلاحية الجيش».
السؤال الرئيسي هنا يطرحه أحد أعضاء البلدية السابقين، عن جدوى المركز الثاني الذي يعتبر توأماً للمركز الأول، سواء بتجهيزاته أو بمهمته، والذي لم يوضع في الخدمة أصلاً إلا منذ نحو عام، رغم جاهزيته. فهل أُنشئ لرفع تكلفة المشروع وسحب ملايين إضافية من صندوق البلدية؟ يجيب مسؤول أمني بالقول إن «النموذج المعتمد في كافة دول العالم يقضي بإقامة غرفتين للمراقبة، واحدة رئيسية، والثانية للاحتياط. والكلفة الكبرى هنا هي لشبكة الاتصال بين الكاميرات وغرفتي التحكم، وللكاميرات ونظام التحكم وخوادم حفظ البيانات، لا في الغرفة نفسها التي لا تعدو كونها مكاناً وُضعت فيه شاشات تُدفع عليها الحصة الأقل من المشروع».
رفضت بلدية بيروت، بأكثرية أعضائها، تسليم غرفة التحكّم للجيش
التصويت في المجلس البلدي أعطى الأكثرية لقوى الأمن الداخلي، باستثناء صوتين للجيش اللبناني. الأهم هنا، أن تيار المستقبل استخدم بلدية بيروت بشخص رئيسها السابق بلال حمد ورئيسها الحالي جمال عيتاني من أجل «تهريب» 36 مليون دولار (كلفة المشروع كاملاً) من أموال دافعي الضرائب فيي بيروت لمصلحة جهاز أمني دون آخر، وحرمان سكان العاصمة، تالياً، مشاريعَ إنمائية كان يمكن تنفيذها بواسطة هذا المبلغ الضخم. فلماذا أصلاً يفترض ببلدية بيروت، لا الحكومة أو الأمن الداخلي، دفع تكلفة مشروع مماثل؟ والخطير في ذلك أن مشروع الكاميرات الأمنية والمراقبة بالنسبة إلى الحريري وبلدية بيروت، مسألة «بسيطة» يجري فيها الالتفاف على مجلس الوزراء، من دون دراسة جدية، رغم أن مشاريع كهذا تثير جدلاً واسعاً حول العالم، لجهة الربط بين الأمن والخصوصية. ويكتسب الموضوع أهمية أكبر في ظل المعلومات التي تتحدث عن السعي إلى إسقاط هذه التجربة على مدينتي صيدا وطرابلس لوضع المدن الكبيرة التي يحظى «المستقبل» بنفوذ فيها، تحت سيطرة جهاز أمني واحد. يبدو الأمر جلياً أن الحريري يريد «فدرلة» الأمن والمدن، وتعزيز فكرة تابعية كل جهاز لقوة سياسية طائفية معينة؛ وليس رفضه لتسلّم الجيش إلا انطلاقاً من ذلك. وخصومه أيضاً ليسوا أفضل منه، في طائفتيهم ورغباتهم «الفدرالية».
قبل الوصول إلى القرار الأخير للمجلس البلدي، جرت مناقشة حلّ رديف يقضي بتسليم مراكز المراقبة للجنة أمنية تشارك فيها كل الأجهزة، «لضمان منع استخدام المعلومات بطريقة خاطئة»، إلا أنها قوبلت بالرفض من الحريري أيضاً. يمكن لما سبق أن يدخل ضمن صراع الصلاحيات بين الأجهزة الأمنية ورغبة كل حزب سياسي يمثل طائفة معينة أن يتحكم بأمن المنطقة التي يسعى «لترويضها». لكن المشكلة الإضافية تكمن في استخدام أموال البلدية لتمرير صفقة من نوع مراقبة حركة المواطنين، وحرمان السكان 36 مليون دولار في مدينة ينقصها الحدّ الأدنى من المشاريع الإنمائية وتعاني أزمة في بناها التحتية ومرافقها ومساحاتها العامة وسائر خدماتها الأساسية.