"أين خدمت في الجيش؟" هو السؤال الثاني الذي يلي التعارف الأوّلي بين أي إسرائيليَّين. البداهة والانسيابية اللتان يحضر فيهما هذا السؤال، تدلان، أكثر من أي شيء آخر في إسرائيل، على مكانة الجيش في الوجدان الاجتماعي للإسرائيليين. هو أكثر من مؤسسة تُعنى بالدفاع عن أمن الدولة وشعبها. في إسرائيل الجيش أُعدّ منذ تأسيسه ليكون "بوتقة الصهر" لمجتمعٍ متعدد المشارب والمذاهب والانتماءات إلى حد الانفجار. وظيفته السوسيولوجية هذه لا تقل أهمية عن وظيفته العسكرية، والمطلوب منه في إطارها استكمال ما تبدأه مناهج التربية المدرسية لجهة تكوين الشخصية الإسرائيلية وفقاً لما تطمح إليه الأدبيات اليهودية ــ الصهيونية. بوصفه كذلك، لا مبالغة في القول ــ موضوعياً ــ إن "جيش الدفاع الإسرائيلي" هو الجهة الأكثر تعبيراً عن الهوية الإسرائيلية والأشد تكثيفاً لقيمها الثقافية والاجتماعية. في ضوء ذلك، يصبح مفهوماً لماذا تبعث الخدمة فيه على التباهي بين أفراد المجتمع، ويُعدّ التسرّب منه عاراً على مرتكبه. هذه الحال في إسرائيل هي "طبيعة الحال" ــ البداهة المتوارثة "أبّاً عن جدّ"، التي لا تحتاج إلى توضيح أو تعليل.
مشكلة إسرائيل مع ظاهرة اسمها المقاومة في بلادنا هي مشكلة فهم وإدراك، قبل أن تكون مشكلة ردع وموازين قوى. تصرّ العنصرية الإسرائيلية على سلب صفة الأصالة والانتماء عن هذه الظاهرة، بنفس القدر الذي تسعى فيه إلى تثبيتها بحق جيشها "الأكثر الأخلاقية في العالم". الدأب المنهجي على نعتها بالإرهاب يراد منه، ثقافياً وإنسانياً، إفقاد المقاومة للقيم، وتقديمها حالةً من الارتزاق الإجرامي، في مقابل الحضارة التي تحتكرها إسرائيل. هي نظرية "الفيلا وسط الغابة" التي يروّج لها إيهود باراك.
لكن، فهمت تل أبيب أو كابرت على الفهم، ثمة حقائق لا بد أن تُواجه بها: هي أمام ظاهرة تجاوزت منذ زمنٍ بعيد وظيفة "القتال من أجل التحرير" في تعريفها لفلسفة وجودها. ظاهرة صارت بالنسبة إلى المنتمين إليها، والمُلَتحقين بها، وعددٍ كبير من الدائرين في فلكها، جزءاً عضوياً من التكوين الشخصي والاجتماعي. ظاهرة تُعبّر عن الهويّة وتتكثف فيها القيم الحضارية أكثر بأضعاف مضاعفة ممّا يمثله الجيش في إسرائيل لشعبها. المقاومة عند جمهورها ومجتمعها هي "طبيعة الحال" التي تعكس أصالتهم وأنتماءهم إلى بلادهم وتاريخهم ومستقبلهم، طبيعةٌ لا تحتاج إلى توضيح أو تعليل، كما لا تحتاج إلى تعبئة أو تحريض. ولأنها كذلك، فإن أجيالها التي تتوارث الشهادة "ولداً عن أب عن جد"، قدرُها أن تبني قصوراً في الغابة المحيطة بالفيلا الإسرائيلية المزعومة.
قبل أكثر من ثمانين عاماً، كتب أبو اليمين الصهيوني، زئيف جابوتنسكي، مقالته الشهيرة «على الجدار الحديدي». في مقالة، تحوّلت إلى أساسٍ نظري للعقيدة الأمنية للدولة الوليدة، شرح جابوتنسكي لكيفية دفع العرب إلى الاعتراف بإسرائيل والتسليم بوجودها. قال إن معارضة العرب للمشروع الاستيطاني طبيعية جداً، وإن تعاملهم بطريقة غير عنيفة سيكون مخالفاً لأي سوابق تاريخية، ذلك أنه «ينبغي ألا نتعاطى معهم كغوغاء بل كشعب حي». ولأنهم كذلك، يرى الزعيم الصهيوني أن إجبارهم على تقديم تنازلات يتأتّى من خلال بناء «جدار حديدي» صلبٍ وخالٍ من أي صدع، بحيث يُفترض بالعرب أن يداوموا على الارتطام به لدى محاولتهم القضاء على المشروع الاستيطاني اليهودي، حتى يقتنعوا مع مرور الوقت بأنهم لن يتمكنوا من اختراقه ويفقدوا الأمل بإمكان حصول ذلك.
نظرية جابوتنسكي كانت صحيحة ما دام العرب الذين واجهتهم إسرائيل كانوا من صنفِ أنظمةٍ كتلك التي قاتلت فهُزمت فوقّعت. أما مقاومةٌ تقدس الموت في سبيل حياة شعبها، تقرن القدرة بالإرادة، وتصمّم على صناعة مستقبل أمتها مهما غلت الأثمان، مقاومة كهذه لا مكان لجدار جابوتنسكي في اعتراض طريقها. في مواجهتها، إسرائيل أمام خيار وحيد: أن تبحث عن شعب آخر، في مكان آخر، تحتله.