مفارقات خطِرة يطرحها البُعد الإنكاري في سياسات فريق 14 آذار، في مقاربة العلاقات مع سوريا. قبل ذلك، انتهج البعدَ نفسه إزاء الحالة التكفيرية الإرهابية، فانتهينا إلى المآسي المبكية التي ذُقناها مع شهداء الجيش في عرسال وصيدا وطرابلس وغيرها.ومع التسليم الأميركي لروسيا بإدارة الواقع المشرقي انطلاقاً من الحالة السورية، يقارب فريق 14 آذار مصلحة لبنان من زاوية إنكار الواقع والاستمرار في طمر رأسه في الرمال، ومن جهة ثانية عبر بناء السياسات الخارجية للدولة وفق معيار الحفاظ على «ماء الوجه» أو النرسيسية السياسية في عدم التسليم بالأمر الواقع.
الإشكالية المطروحة هي الواقع الميداني الذي تجاوز تحرير المناطق السورية من ضمن سياسات تقاسم النفوذ إلى تحرير كل سوريا وبسط سيادة الدولة، مع العلم أنَّ ذلك غير مستغرب لمن يدرك حساسية المسألة السيادية لأي حاكم في دمشق وليس فقط لقيادة النظام الحالي. إشاعات التسليم بإبقاء شمال سوريا وحلب في عهدة السيطرة التركية بدت مضحِكة وتافهة في هذا الإطار. وما كان بعيد المنال خاصة عشية التدخل الروسي ومعارك سهل الغاب وريف اللاذقية في عام 2015، صار حقيقةً ساطعة ولدت من رحمِ تفاهمٍ عميق روسي أميركي حول إدارة الأزمة السورية، وبالتالي منح تغطية عالمية لاتجاه سوريا نحو الاستقرار.
العامل الثاني، خطورة تجاهل المصلحة اللبنانية العليا، في تجاوز رهانات قوى لبنانية نحو استكشاف الفرص من خلف الواقع المستجدّ، وأولها في مسار عودة النازحين، وثانياً في الاقتصاد وإعادة الإعمار. الأهم، أنَّ واقعاً جديداً يفرض نفسه، ويتطلب بالتالي الاستباقية في إصلاح وضع العلاقات مع سوريا على قاعدة خير من أن تستبقَ التحولات وتعمل على الحد من الخسائر عند فشل الخطط والرهانات، قبل أن تعود مرغماً وتصبح الخسارة أشد وقعاً وألماً، ومشاهد عام 2009 لا تزال في الذاكرة.
على أن ما عُرف عن هذا الفريق في التعامل مع السياسات الخارجية والمصلحة اللبنانية الكيانية، لا يشجع على ترقب تغييرٍ في تفكيره. ففي عام 2004، وبعد قرار قمة النورماندي بانسحاب سوريا من لبنان، أصرّ هذا الفريق على متابعة المعركة في شوارع دمشق من ضمن لعبة «روليت روسية» لا يتحملها الواقع اللبناني ولا قوى الرهانات المجنونة، ولا ترتبط أصلاً بمصلحة لبنان وبمقومات السيادة والاستقلال، فكانت النتيجة ما عرفناه في تلك المرحلة.
في المقابل، كان هناك من يدعو إلى فصل مسار حرية القرار اللبناني كمسألة وطنية سيادية، عن رهان إسقاط النظام في سوريا، وتشابكاته الدولية والإقليمية. في 21 تشرين الثاني 2004، شدَّد العماد ميشال عون على أننا «لم نحرر لبنان من الدبابة السورية لنأتي بالدبابة الأميركية»، داعياً إلى حوار مع سوريا يستبق التداعيات المؤلمة. يومها، ضحكَ ــ ولو إلى حين ــ العديد من أركان الفريق الحالي، أو تخوف بعضهم أساساً من نتائج هذه الدعوة على رهانهم بالربط بين معادلة سيادة لبنان وإسقاط النظام.
وما يجعلنا نحمد الله، كلبنانيين، أنَّ وجهة النظر الرئاسية هذه، لا تزال الأقوى، بخياراتها الصحيحة منذ لحظة اندلاع الصراع السوري، لا انسياقاً في انجرافٍ عاطفي نحوه أو نحو غيره، بل بناءً على مصلحة لبنان العليا، والسيادية، والكيانية، وابتعاداً عن الرهانات القاتلة، و«انتظار الجثث على الضفة الأخرى من النهر».
*صحافي وباحث سياسي