قد يظن بعض الضباط المسؤولين عن أجهزة أمنية واستخبارية أن نشر وسيلة إعلامية محاضر تحقيق ومعلومات سرية كافٍ لإدانة أشخاص قيد التحقيق من خلال فضحهم في العلن. ويبدو أن تلكؤ النيابات العامة في ملاحقة المسؤولين عن تسريب محاضر التحقيق من قضاة وضباط ورتباء إلى إعلاميين، يساهم في استمرارها، لا بل يشجع على تكثيفها.
ما حصل من تطورات في قضية المسرحي زياد عيتاني ليس غريباً عن التخلف السائد في لبنان. فالفساد بأنواعه المختلفة متمدّد من القطاع السياسي والمالي، إلى قطاعات الأمن والإعلام والقضاء. ويسمح بعض ضباط أجهزة الأمن والاستخبارات لأنفسهم بالتلاعب بمصير الناس واستباق انعقاد المحاكم العادلة التي من حقها، دون غيرها، تحديد الحقيقة.
وقد تزيد وتيرة التلاعب خلال موسم الحملات الانتخابية عن غيرها من الأوقات، خدمةً لمصالح البعض، غير أن التخلف السائد قد لا يتراجع بعد الانتخابات إذا استمرّ تجاهل أصول العدل وقواعده.
إن عبء الإثبات يقع على الذي يعلن، لا على الذي ينفي (ei incumbit probatio qui dicit, non qui negat)، حيث إن كل شخص، أياً كان، بريء من التهم الموجهة إليه، وعلى الذي اتّهمه أن يثبت عكس ذلك أمام المحكمة، لا في صفحات الجرائد ولا على شاشة التلفزيون. ويحق لكل من أدين علناً قبل التئام المحكمة للنظر في الاتهامات الموجهة بحقه، أن يقاضي كل من تجرّأ على تجاوز قرينة البراءة وسمح لنفسه بأن يشهّر به عبر وسائل الإعلام. وفي هذا الإطار، لا بد من التذكير بأن حق المسرحي زياد عيتاني لا يزيد على حق المقدم سوزان الحاج، ولا على حق أيٍّ من اللواءَين جميل السيد وعلي الحاج، والعميدين مصطفى حمدان وريمون عازار، ولا على حسين عنيسي وأسد صبرا وسليم عياش وحسن مرعي وغيرهم كثيرون أُدينوا في وسائل الإعلام قبل صدور أحكام قضائية عادلة بحقهم.
أما الدليل الجنائي الذي يفترض أن توثقه محاضر التحقيق ويعدّه البعض كافياً للإدانة، فلا يمكن أن يقتصر على اعتراف المشتبه فيه أمام المحققين، ولا على قرائن ظرفية، ولا على تحليل لاتصالات هاتفية أو إلكترونية. ولا بد من تأمين الوقت والموارد المادية والبشرية الكافية ليتمكن المشتبه فيه من التشكيك في صحة وقانونية كل ما ورد في محاضر التحقيق التي استند إليها لإصدار القرار الاتهامي بحقه. هكذا، يكون التوازن بين الاتهام والدفاع أساس العدل، لا في وسائل الإعلام وفي صالونات السياسة والمجتمع، بل في المحاكم المستقلة التي يديرها قضاة يتمتعون بالكفاءة والنزاهة.
يبدو أن في لبنان اليوم بعض الضباط الذين يساهمون في تدمير ما بقي من مؤسسات الدولة من خلال تجبّرهم على القضاء وتكبّرهم على أصول العدل وإجراءاته. وفي قضية زياد عيتاني قد يكون أداء بعض الضباط والرتباء أكثر سوءاً وضرراً، لأن الموضوع يتعلق بملاحقة أشخاص مشتبه فيهم بالعمل لمصلحة العدو الإسرائيلي. ويُخشى أن تتعرض أي ملاحقة لمشتبه فيهم بالتعامل مع العدو، من اليوم فصاعداً، للاعتراض السياسي والإعلامي.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن نشر محاضر التحقيق المسرّبة في وسائل الإعلام قد يؤثر في القضاة من خلال الرأي العام، ما قد يدفعهم إلى تكوين تصوّر مسبق.
المطلوب اليوم هو التحرك الفوري للنيابات العامة للتحقيق مع جميع القضاة والضباط والرتباء المشتبه في ضلوعهم في تسريب محاضر التحقيق خلافاً للقانون والأصول، وإحالة الملف على المحاكم المختصة لإصدار الأحكام العادلة بحقهم، وبحق كل من يثبت تورطه بالتسريب.
وبطبيعة الحال، تُحترم قرينة البراءة حتى للذين يشتبه في نسفهم قرينة البراءة في قضية عيتاني وقضايا أخرى.